حكي جرايد

TT

رغم كل تخلفنا فهناك ميادين نتفوق فيها فعلا على الغربيين. الإنجليز مثلا يصفون الشيء الأمين والحصين بأنه «مثل فلوس بالبنك». ثبت الآن سخف هذا القول بعد أن فقد ألوف الناس فلوسهم التي أودعوها في البنوك. نحن في العراق نقول: «حط فلوسك تحت فراشك ونام عليها». يا له من قول حكيم تبين اليوم. والمرأة عندنا تأخذ من فلوس زوجها وتشتري بها أساور ذهبية لها. وها هو سعر الذهب ارتفع ثلاثة أضعاف ما كان عليه. هل من خبير اقتصادي عالمي يبزها في قراءتها للمستقبل؟

ولكن كيف انهارت البنوك الغربية؟ يتهم الخبراء الصحافة عما جرى. يقولون إن المراسلين نشروا تقارير سلبية جعلت المودعين يهرعون لسحب أموالهم وبيع أسهمهم بما أدى لانهيار السوق. هذا في الواقع ما حصل لبنك «نورثرن روك». نشرت تقارير تشير إلى عجز في ميزانيته فتسارع الناس لسحب أموالهم منه. وما أن رأى القوم الصفوف الطويلة الممتدة أمام فروع البنك من المودعين القلقين على ودائعهم حتى سرت هستيريا في طول البلاد وعرضها حيال هذا البنك، بما أدى فعلا وعمليا إلى انهياره واضطرت الحكومة للتدخل لتأميمه. أنا كنت واحدا ممن كان لهم حساب توفير فيه. ولكنني لم أتعرض لهذه الهستيريا ولم أسحب ودائعي. لماذا؟ هل لأنني أفهم في الاقتصاد وشؤون المال أكثر من كل هؤلاء الخبراء؟ كلا. إنني في الواقع أقل فهما في الاقتصاد من اللجنة الاقتصادية للجامعة العربية.

لم أشعر بأي قلق تجاه ودائعي في هذا البنك؛ لأنني مواطن عراقي وفي العراق نحن لا نصدق ما تقوله الجرائد. تسمعنا نصف أي شيء نشك في مصداقيته بقولنا إنه «كلام جرايد». الإنجليز يقولون «مثل فلوس بالبنك» ونحن نقول «مثل كلام بالجرايد». وثبت أن الشعب العراقي أكثر حصافة ودراية من الإنجليز. لم أسحب فلوسي من نورثرن روك، وبعد أيام قليلة اتضح أن أصول البنك كانت أكبر من ديونه. كل ما في الأمر أن صحافيا كتب تقريرا من نوع «كلام جرايد» وصدقه القوم. وهذا شيء نتميز به على الإنجليز. فعندما تقول شيئا لهم يفترضون أنك تصدق فيما تقول في حين نحن نفترض أنك تكذب. لم هذا التميز؟ السبب هو أننا معتادون على التعامل بالكذب.

يظهر أن الغربيين أخذوا يتعلمون منا أخيرا. فقد كشفت التقارير أن جماهيرهم لم تعد تصدق مديري البنوك أو تثق في ودائع. قبل أيام قليلة، جرى استجوابهم فكانوا مثل شلة من طلبة المدارس الابتدائية لم يقوموا بواجباتهم فاقتضى معاقبتهم بالخيزرانة على قفاهم. ولكن لم يجرؤ أحد حتى كتابة هذه السطور على ضرب البانكرية بالخيزرانة على قفاهم.

نعم ، ثبتت مغالطتهم. ولكن تقريرا آخر صدر أثناء ذلك، يشير إلى أن الجمهور يعتبر الصحافيين أكثر كذبا من البانكرية. سبعة في المائة فقط من الجمهور يعتبرون الصحافيين قد مارسوا مهنتهم من منطلق المسؤولية. والآن يا سيدي القارئ لا تنس وأنت تقرأ هذا المقالة أنها أيضا «كلام جرايد».

www.kishtainiat.blogspot.com