الحرقان أو «قصة كائنات مغاربية منبوذة»

TT

الهجرة السرية أو كما تسمى في المغرب العربي «الحرقان»، أشبه ما تكون بمرض مفجع وفتاك ينهش أحيانا أجساد الشباب ويسلمها ضعيفة لأمواج البحر وأحيانا في حالات النجاة من الموت غرقا، يكتفي بقضم كرامتهم وإنسانيتهم. واللافت أن ابتكار عبارة «الحرقان» يعد في حد ذاته حدثا لغويا معبرا، حيث يُوصف الفاعل بـ«الحارق» وكأن في الوصف المجازي دلالة على قرار الحرق أي الخرق وارتكاب التجاوزات وتلك الحرقة التي يُخلفها «الحارقون» في بيوتهم ولدى أمهاتهم.

إنها معضلة يُعاني منها بلدان المغرب العربي وجنوب أوروبا، تحديدا إيطاليا وإسبانيا. والغريب أن الحارقين من النساء والرجال الذين ينتمون إلى فئات عمرية مختلفة تصل حتى دون الـ15عاما وتغلب عليهم فئة الشباب، رغم كل الأحداث وحالات الصدام الثقافي والعسكري التي عرفها العالم العربي في علاقته بالغرب، فإنهم لا يزالون يغامرون بأرواحهم للوصول إلى تراب إيطاليا وإسبانيا، بحكم قربهما من الحدود المغاربية وسهولة التسلل إليهما عن طريق البحر. ولعل متابعي آخر تطورات الهجرة السرية في المغرب العربي، قد وصلهم خبر المواجهات التي نشبت بين مهاجرين تونسيين وحراس مركز احتجاز في جزيرة لامبادوزا الإيطالية، وذلك احتجاجا على الظروف غير الإنسانية التي يعاني منها أكثر من 1300 مهاجر غير شرعي، معظمهم من المغاربيين إذ جاء في بعض التقارير أنه من فرط سوء الأوضاع في معتقل لامبادوزا الذي يضم ضعف طاقته على الاستيعاب، فإنهم أشعلوا النيران معبرين عن غضبهم وحالة الاحتقان التي وصلوا إليها، الشيء الذي جعل أهالي جزيرة لامبادوزا يتعاطفون مع «الحارقين» ويُنظمون بدورهم مظاهرة احتجاجية، يدافعون فيها عن كرامة الشبان المغاربة المهمشين الذين خاطروا بأنفسهم من أجل الوصول إلى جنة المال والحياة الكريمة والعمل المربح، فوجدوا أنفسهم في معتقل ومكدسين فوق بعضهم بعضاً. وقد عجلت هذه الحادثة في الانطلاق لمعالجة ملف هؤلاء المحتجزين، حيث تحركت الحكومة التونسية من أجل التسريع في التثبت من هويتهم وإعادتهم إلى أرض الوطن.

وأخيرا أيضا غرق قرابة 22 من الشباب الحارق من طنجة المغربية، وذلك قرب جزيرة لانزامروتي الإسبانية، وتقول الأرقام في الجزائر إنه تم العام الماضي انتشال 98 جثة من على السواحل، الشيء الذي جعل الجزائر تشتري قوارب إنقاذ.

ولكن لماذا تفاقم في السنوات الأخيرة عدد «الحارقين» في المغرب العربي وكثرت أخبار الغرقى؟

لا شك في أن ظاهرة «الحرقان» ليست وليدة اليوم ولا هي جديدة، ولكن الجديد هو ظهور مافيا تُتاجر بأرواح الشباب الحالم بالهجرة الذي أُغلقت في وجهه أبواب السفارات الأوروبية، فتصيدت مافيا الهجرة السرية هذا الحلم وخلقت سوقا سرية تبيع الوهم بالآلاف وتحمل هؤلاء الشباب في قوارب غير آمنة بالمرة، فتكون النتيجة في أغلب الأحيان الموت غرقا في البحر.

من جهة أخرى لا نستطيع أن نغفل عن حقيقة مُرة في المغرب العربي وهي ارتفاع عدد العاطلين عن العمل في صفوف الشباب، مما يجعل هؤلاء الشباب اليائس يفكر في الهجرة بحثا عن واقع اقتصادي أفضل. فالبطالة مشكلة عويصة ذات مخلفات نفسية تُحرض صاحبها على ركوب الخطر والمغامرة بكل شيء في سبيل تغيير واقعه الصعب لا سيما في مرحلة عمرية صعبة وذات احتياجات وطموحات كبيرة.

وأمام ضعف قدرة البلدان المغاربية على معالجة ظاهرة البطالة والتقليص من عدد الحارقين والمحبطين اجتماعيا واقتصاديا، فإن دول الاستقبال تسلحت بأقصى درجات القسوة وأسقطت من اعتبارها أنها تتعاطى مع كائنات إنسانية، فقامت عديد المرات بالمشاركة في عملية قتلهم غرقا قبل الوصول إلى ترابها. وفي حالات نجاح عمليات «الحرقان» ابتكرت لهم معتقلات على شاكلة «غوانتانامو» تُكدسهم فيها بوصفهم كائنات منبوذة.

وفي مقابل هذه السياسة الوحشية الباردة، راحت تُعد مع بلدان المغرب العربي اتفاقيات هجرة منظمة مُحددة حسب حصص معينة، تُضبط من الطرفين. ومن جهتها الدول المغاربية قد اختلفت طرق معالجتها لهذه الظاهرة، حيث هناك إجراءات لتجريم الهجرة السرية وتكثيف مراقبة السواحل ومحاولة تفكيك شبكات المافيا والمتاجرة بأرواح الشباب المغاربي والإفريقي.

وعندما نطيل التفكير في حالات من الحارقين الذين نجد من بينهم المرأة الحامل والشاب الذي لم يعمل قط لانعدامه، ندرك أن الإجراء الحريّ بالأخذ هو تجنيد كافة إمكانيات البلدان المغاربية (حكومات، ومجتمع مدني، ووسائل إعلام، ورجال أعمال..) من أجل الحد من معضلة البطالة؛ لأن الشاب العاطل عن العمل والذي يركب البحر في ظروف غامضة ومخيفة حاملا في يديه الفارغتين روحه لا يعنيه قانون تجريم الهجرة السرية أو غير ذلك من الإجراءات الثانوية.. فالحل يكمن في التوعية بمشاكل الهجرة، وفي توفير فرصة عمل وطرد شبح الجوع والفقر.