امتحان المحكمة الدولية

TT

أربع سنوات من الانتظار المرهق وأربع سنوات من المناورات السياسية وأربع سنوات من ردح إعلامي لم يخل من التهديد أحيانا.. تبرر اعتبار «قوى 14 آذار» انطلاقة المحكمة الدولية المخصصة للنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري إنجازا سياسيا، وإن كان لا يزال في بدايته.

وبعد أكثر من عشرين جريمة اغتيال سياسية بقيت بلا عقاب وحسبت جميعها على فاعل «مجهول» – ومعلوم من الجميع في معظم الحالات- لا يلام اللبنانيون على لجوئهم إلى القضاء الدولي للنظر في جرائم ارتكبت على أرض لبنان.

مع ذلك تبقى العبرة المؤسفة في هذا الإجراء اعتراف لبنان الضمني بأنه لا يزال أحد الدول القليلة في العالم التي تفتقد إلى القاعدة الأساسية لنشوء الدول: السلطة القضائية القادرة على فرض العدالة.. دون وجل أو تردد.

لافت أن يعرب اللبنانيون عن تأييدهم للمحكمة الدولية بعد انطلاقتها: بعضهم لتطلعهم إلى إحقاق الحق ونصرة العدل وبعضهم لأملهم في وضع حد للاغتيال السياسي كوسيلة «إقناع» و«إخضاع» معا، والبعض الآخر لتبرئة جهة سياسية معينة من تهمة تشكل، في حال ثبوتها، إدانة لنظام سياسي بأكمله.

ولكن لا توقيت المحكمة، من جهة، ولا مشاكل لبنان، من جهة أخرى، يسمحان بتوقع أن تكون المحكمة الدولية مجرد استحقاق سياسي عابر. فعلى صعيد التوقيت تنطلق المحكمة قبل ثلاثة أشهر من موعد انتخابات نيابية في لبنان يتفق الفرقاء السياسيون الذين يخوضونها على وصفها «بالمصيرية».. ويختلفون على كل ما عدا هذا الوصف، بما في ذلك المحكمة الدولية.

تصرف الأحزاب والكتل التي تخوض هذه الانتخابات يدل، منذ اليوم، على أن جمر المعركة يتقد تحت الرماد وأن «القلوب الملآنة» تنتظر فرصة سانحة لتعبر عن مكنونها من عداءات سياسية عبر عادة أصبحت تقليدا في لبنان: اللجوء إلى الشارع وإلى السلاح معا.

في مناخ هذا الوضع المشحون، وهذا التوقيت الدقيق لتفاعل الخلافات السياسية، قد يكون من الحكمة أن تتحسب الدولة من أن تتحول المحكمة الدولية من «استحقاق قضائي» إلى «امتحان سياسي» للأحزاب والقوى المتصارعة في لبنان وأن تتحسب سلفا لما يمكن أن تكون عليه ردة فعل بعض القوى السياسية على قرارات محتملة مثل استدعاء الضباط اللبنانيين الأربعة الموقوفين على ذمة التحقيق إلى لاهاي، أو التلميح إلى تورط جهة إقليمية ما في جريمة الاغتيال.

مع التسليم بأن المحكمة ليست في وارد «تسييس» جريمة الاغتيال، لا يمكن عزل قراراتها عن مردود سياسي تقطفه هذه الجهة أو تلك في الانتخابات المقبلة.. واستطرادا استبعاد صدور ردود فعل مضادة في بلد مدجج بالسلاح ومثقل بالأحقاد السياسية والطائفية والمذهبية.

قد يكون أبلغ ما قيل في افتتاح المحكمة تذكير رئيس قلمها، روبن فنسنت، «لسنا هنا من أجل من ارتكب هذه الجرائم.. بل من أجل ضحايا هذه الجرائم» .ولكن السؤال يبقى: هل يستطيع اللبنانيون المسيّسون إلى العظم التعايش بسلام مع جلسات المحكمة الدولية وقراراتها خصوصا في حال استمرارها لأربع أو خمس سنوات؟

بقدر ما هي حل لما وصف بـ«جريمة العصر»، قد تكون المحكمة، من حيث توقيتها، امتحانا جديدا لمدى تقبل اللبنانيين، ديمقراطيا، للرأي الآخر، خصوصا إذا كان «رأيا» مبنيا على تحقيق قضائي نزيه تجريه جهة دولية محايدة. ولكن المطلوب يبقى ليس فقط مواصلة مساعي التهدئة الهادفة إلى تعويد اللبنانيين على قبول بعضهم البعض بل إقرانها بمساع جديدة لتعويدهم على تقبل قرارات المحكمة الدولية، كائنة ما كانت.

غني عن التذكير بأن ظاهرة «التراكمية» في مشاكل لبنان تجعله بغير حاجة إلى مشاكل جديدة، فرغم أن مشاكله غير مستعصية على الحل تظل غير قابلة للحل فتتكفل المشاكل المستجدة بمهمة الحلول محل القديمة.. المتروكة من دون حل.