دارفور والسعي وراء البشير

TT

قد ينطبق المثل القديم القائل: «كما تدين تدان»، على قضية الرئيس السوداني عمر حسن البشير، الذي باتت أخباره تتصدر عناوين الأخبار مرة أخرى، فقد بدأت القضية في الأمم المتحدة، وها هي تعود إلى هناك مجددا.

منذ أربع سنوات مضت، أمر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق ضد البشير، بسبب المزاعم حول تورطه في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، ذلك الإقليم السوداني الذي مزقته الحروب متعددة الأطراف التي شكل أطرافها الحكومة المركزية والجماعات العرقية المتمردة والجريمة المنظمة.

يأتي تدخل المحكمة الجنائية الدولية كتوجه سياسي قصد من ورائه إحداث انطباع بأن مجلس الأمن كان يقوم بشيء تجاه دارفور في حين أنه لم يقم بشيء ولم يكن يرغب في القيام بأي شيء على الإطلاق.

في ذلك الوقت لم تبد الولايات المتحدة اهتماما بالتحقيقات، التي خلصت إلى أن ما يجري في دارفور هو نوع من الإبادة الجماعية، وأن البشير وإدارته لديهم أسئلة لكي يجيبوا عليها. غير أن الولايات المتحدة لم توقع على المعاهدة التي تم بمقتضاها إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ودأبت على النظر إلى هذه الهيئة الجديدة بنوع من الريبة.

وفي شهر يوليو (تموز) الماضي رفع كبير المدعين العامين في المحكمة الجنائية الدولية مورينو أوكامبو، أحد أفضل القضاة الإسبان، مذكرة توقيف بحق الجنرال البشير لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ويأتي الرئيس البشير كثالث رئيس دولة بعد سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس صربيا الأسبق، وتشارلز تايلور رئيس ليبيريا السابق، يصدر بحقه مذكرة توقيف من قبل المحكمة الجنائية الدولية.

وقد شهدت الشهور السبعة الماضية مناورات دبلوماسية مكثفة للتوصل إلى حل وسط، حيث حاولت الصين وروسيا مدعومة من فرنسا وبريطانيا إقناع مجلس الأمن باستغلال المادة السادسة عشرة من قانون المحكمة الجنائية الدولية لتجنب إثارة القضية.

من جانبه حاول الرئيس البشير الاضطلاع بدور وسيط السلام في دارفور، فقبل أسبوعين من إصدار مجلس الأمن حكمه، توصل البشير إلى اتفاق لإطلاق النار مع إحدى الجماعات المتمردة (قالت الجماعة إنها ستنشقّ إذا أُقصي البشير من السلطة).

ولكي يبدو البشير وكأنه لا غنى عنه، أمر باتخاذ إجراءات صارمة ضد معارضيه وأرسل العديد من الرموز السياسية الكبيرة إلى السجون، وقام في الوقت ذاته برشوة البعض الآخر بالمال ووعود بوظائف مغرية. وكان الهدف من وراء ذلك أنه إذا أُقصي البشير من السلطة عند هذا الحد فإن التوازن الهش الذي شهده السودان بعد انتهاء الحرب في الجنوب سينهار، حتى إن بعض المراقبين حذروا من أن السودان، تلك الدولة الموحدة، قد يواجه تفككا يؤدي إلى انطلاق موجة جديدة من النزاعات في وسط وشرق إفريقيا.

إذن فالقضية هنا مزيج من ثلاث قضايا مترابطة في ذات الوقت، تتطلب دراسة كل منها على حدة، إذا ما أردنا أن نفهم الموقف بصورة جيدة.

أولى تلك القضايا، وربما كانت الأكثر أهمية هي دور المحكمة الجنائية الدولية.

فعندما نوقشت الخطط الخاصة بإقامة المحكمة الدولية، منذ عقد مضى، في روما، دعم الكثيرون منا الفكرة لاعتقادنا أن تلك المحكمة لن تخضع للضغوط السياسية القومية. بيد أن فكرة «حصانة السيادة» التي تأسست بعد قرنين من كونغرس فيينا أظهرت حدودها القصوى، وبموجب ذلك المفهوم لن يمكن مقاضاة قادة الحكومات الذين ارتكبوا جرائم باسم الدولة، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك رفض مجلس اللوردات البريطاني، أعلى محكمة في المملكة المتحدة، القبض على ديكتاتور تشيلي السابق أوجوستو بينوشيه خلال إقامة الأخير في لندن، ووفق ذات المفهوم، لم تكن لترفع قضية ضد صدام حسين والملا محمد عمر وميلوسيفيتش.

وفكرة إمكانية إزالة المحكمة الجنائية الدولية لحصانة السيادة كلية تظهر أن الفظائع التي تعتبر إجرامية بموجب القانون الدولي يمكن إعادة تفسيرها على أنها جرائم سياسية، غير أن المحكمة الجنائية الدولية لم تقم بذلك، وكل ما قامت به هو خلق فكرة جديدة أكثر غموضا عن «حصانة السيادة» عندما منحت مجلس الأمن الدولي القول الفصل في تحديد الشخص التي يجب أن يقدم للمحكمة، الأمر الذي يمنح الأعضاء الخمسة الكبار حاملي الفيتو في المجلس قوة فوق إقليمية تناقض العدالة المستقلة، ومع النفعية السياسية التي غلبت على مبادئ العدالة يمكن أن تصبح المحكمة الجنائية الدولية أداة في أيدي القوى الخمس الكبرى، ويصبح بإمكان المجلس إصدار الأمر للمحكمة بالتحقيق مع أي شخص يرغبونه، ما إن يُقدَّم طلب بمذكرة توقيف، لتحدد ما إذا كان سيتم منح المذكرة أم لا. غير أن كل دول المجلس الخمس ليست دولا ديمقراطية مبنية على حكم القانون وهو ما يجعل تلك الحقيقية أكثر إثارة للفزع.

القضية الثانية هي مصير السودان، فالبشير الذي استطاع ذات مرة أن يقيم تحالفا حاكما، قد يصبح عائقا بالنسبة للنخبة الحاكمة في البلاد، وإذا ما دخلت البلاد في دائرة النزاع من أجل السلطة قد لا تلجأ النخبة الحاكمة إلى إثارة النزاع ضد الأعداء الداخليين والمحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن. وربما تكون الإطاحة بالبشير هدفا مغريا بالنسبة للبعض داخل النخبة الحاكمة.

حتى وإن حدث ذلك فإن الصفوة الحاكمة لا يمكن أن تأمل في أن يتحول البشير إلى كبش فداء. وإذا ما حدثت مذابح عرقية في دارفور فإن ذلك، دون شك، لن يكون من صنع رجل واحد. على أية حال لقد أصدرت المحكمة مذكرتي توقيف ضد اثنين من الصفوة الحاكمة في السودان هما أحمد هارون، وزير الشباب، وعلى خشيب قائد إحدى الميليشيات، كما تنظر المحكمة في قضايا ضد خمسة آخرين.

وبالنظر إلى ذلك فإن النظام الحاكم في السودان يُعتبر فاشلا، إذ حطم قوانين الإدارة السياسية الراسخة في البلاد منذ أمد طويل، وبدد موارد الدولة، وساعد في إحداث مأساة في دارفور، ولذا فإن الإطاحة بالبشير لن تمحو كل ذلك.

القضية الثالثة تتعلق بالوضع في دارفور: فعلى الرغم من الدعوات التي تصدر بين الحين والآخر لكي ترضي مناصري الجمعيات الخيرية في الداخل، فإن الدول الكبرى غير مستعدة لتخصيص الموارد المالية والعسكرية والسياسية اللازمة لإخماد الحريق الدائر هناك، وربما يأتي السعي وراء البشير كورقة توت لتغطية العري السياسي للقوى الكبرى عندما يتعلق الأمر بدارفور.