المؤسسات الدينية بين الإحياء والإصلاح

TT

اغتبطْتُ أشدَّ الاغتباط للتغييرات التي جرت بالمملكة العربية السعودية في وزارة العدل ومؤسسات السلطة القضائية، وفي هيئة كبار العلماء، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهذه الجهات تضمُّ أكثر مجالات ونشاطات المؤسسة الدينية. ولو أضيف لذلك التعليم الديني الأساسي والعالي، لكان التغيير شاملا لكل المرتكزات الرمزية والتشريعية والعملية التي تتحرك استنادا إليها المؤسسةُ الدينية. ذلك أنّ المؤسسة الدينية هي في أشدّ الحاجة للتقوية والتجديد بسبب التحولات الكبرى التي نالت من قوتها وحجيتها في العقود الخمسة الماضية. وأعني بالتحولات مسارات التفكير والتدبير ضمن «أهل السنة والجماعة»، وهم الكثرة الكاثرة من المسلمين.

إنّ المعروف في التجربة الكلاسيكية الإسلامية أنّ مصطلح «السنة والجماعة»، الذي نعرفُ الآن أنه تبلور نحو أواسط القرن الثاني الهجري، إنما يتناول ركني الدين (السنة)، والدنيا (الجماعة). والمقصودُ بذلك أنّ الجانب الأول متعلقٌ بالأركان التعبدية عقيدة وفقها؛ ورؤيتها ضمن مفهوم الاتّباع (السُنّة)؛ بينما ينصبُّ الركن الثاني على مشاركة جماعة المسلمين في إدارة شؤونها الخاصة والعامة، التي تخضعُ لإدراكات المصالح وتدبيرها. وفي حين تعامل العلماء مع الركن الأول اعتقادا ورواية واتّباعا وتعليما، تعاملوا مع الركن الثاني اجتهادا واشتراعا، وما كان هناك صدامٌ بين الفقهاء والدولة بعد محنة خَلْق القرآن، لأنه كان هناك تقسيمٌ للعمل بين الطرفين ضمن المشروع الواحد؛ في ظلّ المرجعية العليا للإسلام، وحقّ الإمرة للسلطة السياسية التي «تحرس الدين وتسوس الدنيا».

لماذا هذا التحديد للمفاهيم والاستطراد فيها؟ لأنّ القرن العشرين شهد إقبالا كبيرا من جانب السلفيين (من داخل المؤسسة ومن خارجها) على العناية بالشأن الديني (السنة) لجهات تحديد المفاهيم وتصحيحها وتطهيرها بحيث ما بقيت صغيرةٌ في الاعتقاد أو العبادات وما جاورها من أُمورٍ تعبديةٍ أو حِسْبية إلاّ وجرى التشديد عليها والتدقيق فيها؛ ومكافحة البدَع والانحرافات التي حدثت عبر العصور (وشرُّ الأُمور مُحْدثاتها)، أو التي دخلت مع الغرب إلى عالم المسلمين. وقد أدّت العناية الفائقةُ تلك إلى ضيقٍ شديدٍ؛ إذ برز ما يشبهُ أن يكون «قانون إيمان» بالتعبير الكاثوليكي، ووجد كثيرون أنفُسَهُم خارجه أو خارج بعض بنوده، أو وجدهم المتشددون كذلك.

بيد أنّ الأشدَّ تأثيرا وتغييرا كان عملُ من أسمّيهم إحيائيين أو أُصوليين (مثل الجماعة الإسلامية بالهند وباكستان، والإخوان المسلمين ومتفرعاتهم في العالم العربي). فقد انصبَّ مُعْظَمُ جهدهم على مفهوم «الجماعة» أو الركن الثاني من ركني أهل السنة. إذ كان همُّهم – وهم جماعات هوية - إصلاح الحياة الخاصة والعامة للناس، لتنقيتها من أَوضار الحداثة، والوصول إلى تدبير ذي شرعية لشؤون المسلمين. وقد انتهى بهم الأمر كما هو معروف إلى القول بمرجعية «الشريعة» وليس «الجماعة» في إدارة شؤونها العامة. فبرز على الفور تناقُضٌ ومُواجهةٌ بين الشريعة والجماعة، أو أنهما صارا على طرفي نقيض بالتدريج، لأنّ التطابُق خارج الرمزي واللاشعوري والعَقَدي مستحيل. وهذا معنى المُراوحة لدى الأُصوليين باتّهام المسلمين تارة بالغفلة عن مقتضيات الدين، وطورا بالكفر والخروج. وكان الحلُّ الأسهل في ظلّ رؤية الحاكمية (حاكمية الشريعة) الاتّجاه للاستيلاء على السلطة من أجل فرض تطبيق الشريعة حسب هذا المفهوم لها. وهذه مرة أخرى أصول أو خلفيات الصراع المستمرّ منذ عقود بين الأصوليين والسلطات.

أين كانت المؤسسات الدينية التقليدية أو مؤسسات المذاهب الأربعة، عندما كانت مفاهيم السنة والجماعة تتغير أو تتحول؟ إنّ المعروف أنّ المهامَّ التقليدية للمؤسسات الدينية تشملُ إقامة العبادات، والتعليم الديني، والفتوى، وممارسة القضاء (أو بعضه). وهي ما كانت محظوظة مع الدولة في العالم الحديث. فبعضُ الدول مالت لإلغائها أو إضعافها إضعافا شديدا ولأحد سببين: معاداة الإسلام ورموزه (مثل الأقطار الواقعة تحت السيطرة الروسية/ السوفياتية، وألبانيا، ومثل تركيا أيام كمال أتاتورك)، أو اعتقادا من ثوريي الدولة الحديثة العرب، أن التقليديين هؤلاء إنما يشكّلون عقباتٍ في طريق التحديث والعصرنة. وما سلكت الدول العربية الكبرى مثل مصر والمغرب والمملكة العربية السعودية، مسْلَكَ الإلغاء أو الإضعاف؛ بل إنها قوَّت المؤسسة الدينية ووسّعت من نشاطها، لكنها استتبعتْها، للاستعانة بها في المهامّ التحديثية، ومهامّ الضبط التي تحتاج إليها. وبنتيجة ذلك كلِّه فإنّ المؤسسة الدينية ضعُفتْ حجيتُها، وانصرف الناسُ عنها إلى المتشددين والأُصوليين الذين ما لبثوا أن صار قسمٌ كبيرٌ منهم لا يسعى وحسْب للحلول محلَّ السلطات السياسية؛ بل ومحلّ المؤسسة الدينية التقليدية، رجاءَ الحصول على شرعيةٍ إضافيةٍ، بعد الشرعية التي وهبهم إياها نزوعهم الاحتجاجي. فالواقعُ اليوم ظهورُ ثلاث فِرَق إسلامية إذا صحَّ التعبير: السلفية الجديدة، والإحيائية الجديدة، والصوفية الجديدة. وهناك تقارُبٌ حدث في العقود الأخيرة، كما هو معروف، بين المتمردين من السلفيين الجدد والانشقاقيين من الأُصوليين؛ بينما تزدهر الصوفية أيضا، وتزداد عجائبُهُم، وممالكهم السحرية؛ في حين ما يزال «السلفيون الجهاديون» معنيين بـ«تطبيق الشريعة» علينا وعلى العالم، عالم الفسطاطين!

وخلاصةُ الأمر أنّ هذا الواقع مُحتاجٌ للمعالجة، والمؤسسةُ الدينيةُ لا بديلَ عنها في ذلك. وطبيعيٌّ أن لا يكونَ ذلك كافيا؛ بل إنها وجه من وجوه الإصلاح أو العودة إلى التوازُن العقدي والاجتماعي والسياسي. إذ المُلاحَظُ أنه في الدول التي أُلغيت فيها المؤسسةُ الدينية أو أُضعفت إضعافا شديدا؛ ظهرت أصوليةٌ عنيفةٌ وهوجاء. أما الدول التي استتبعت المؤسسة؛ فإنّ الثَوَران الإسلامي فيها أقلّ حِدّة. والمؤسسة الدينية السنية هي مؤسَّسةٌ وظيفيةٌ مفتوحة، وتعتمدُ في فعاليتها وحجيتها على الكفاءة والقدرة على أداء مهامّها بمرونة واستنارة. وكانت تعتمدُ في قيامها واستمرارها على الأوقاف والمدارس؛ أمّا بعد تأميم الأوقاف أو إضعافها؛ فإنها محتاجة لتكييف آخر لدخْلها ووظائفها. والمعروف أنه في الدول الأوروبية والولايات المتحدة؛ فإنّ أتباع الكنائس هم الذين يموّلون المؤسسة الدينية، دون أن يستتبعوها. ولا يحتاج الأمر إلى كلّ ذلك في مجالنا الثقافي. لكنْ على المؤسَّسة أن تنهض بإصلاح هياكلها، وأن تَعِيَ المتغيرات، ويتجدد لديها الوعي بالمهامّ والرسالة، باعتبارها وجه الإسلام ليس بالداخل وحسْب، بل تجاه الخارج أيضا. وبالطبع ما عادت لديها الوظائف الكثيرة التي كانت لها سابقا؛ لكنّ ما بقي لها في التعليم والفتوى والقضاء كبير ومُهمٌّ إلى أبعد الحدود؛ بدليل استماتة الأصوليين للحصول على موطئ قدمٍ في هذه المجالات أو بعضها.

ومنذ ظهور التُرك في العالم الإسلامي، ووصولهم إلى السلطنة، فضّلوا المذهب الحنفي، دون أن يتعرضوا للمذاهب الأُخرى. ثم اعترف المماليك بالمذاهب الأربعة، مع تقديم الحنفي. وكذلك فعل العثمانيون؛ في حين غمرت الصوفيةُ سائر المنافذ بالدولة وخارجها. وعندما شكّل الملك عبد العزيز هيئة كبار العلماء للمرة الأُولى كان فيها أعضاء من سائر المذاهب الفقهية. أمّا الآن ففي هذا التعديل (دخول المالكية) تجديدٌ وإصلاح؛ وبخاصةٍ إذا ضممْنا إلى ذلك ما حدث في القضاء، وفي هيئة الأمر بالمعروف. ولدينا اليومَ من يمارسون التعليم والفتوى كثير من الدعاة التلفزيونيين، فضلا عن الاستخدام الكثيف للشعارات الإسلامية في المجال السياسي. وجُلُّ الذين يقومون بالأمرين من المتشددين أو الحزبيين سابقا أو حاليا. وقد حقّق بعض هؤلاء اختراقات في المؤسسة الدينية. وكل هذه أمورٌ تستحق التأمل والتفكير والتصرف باتجاه الاستيعاب والإصلاح والانفتاح والاستنارة، ومن قلب المؤسسة، وليس فقط من جانب ولي الأمر: وإنّ غدا لناظره قريب.