الصومال مختبرا للوضع العربي

TT

على الرغم من انعدام الاهتمام العربي بالحالة الصومالية، فإن الوضع في هذا البلد المنكوب القصي يستوقف المحلل المراقب للأوضاع العربية من عدة أوجه، بحيث يمكن القول ببعض الاستفزاز المشروع إن الصومال يصلح أن يكون مختبرا للحالة العربية الإجمالية، في مستويين بارزين على الأقل:

أولا: تفكك الكيان المركزي واندلاع الفتنة الأهلية، على الرغم من حالة الانسجام والتجانس بين مكونات النسيج القومي الصومالي. فلقد استقر في الفكر السياسي العربي أن المجتمعات المتنوعة قوميا أو دينيا معرَّضة أكثر من غيرها للتصدع والانقسام. وبحسب هذه الفرضية التي كان المثال اللبناني يقدم دليلا كافيا عليها وضع براديغم تصنيفين لتحديد درجات الخطر بحسب معيار التجانس، وتخصصت مدرسة كاملة في هذا المنحى هي مدرسة «الأقليات» التي تزعمها عالم الاجتماع المصري المعروف سعد الدين إبراهيم (أنشا مركز ابن خلدون لهذا الغرض البحثي). ومع اندلاع الفتنة الداخلية في الصومال واليمن في بداية التسعينيات ظهرت إشكالات نظرية تفند الأطروحة السائدة، باعتبار أن البلدين من أكثر البلدان العربية انسجاما وتجانسا عرقيا ودينيا. صحيح أنهما يتميزان كما هو شأن عموم المجتمعات العربية بالتنوع القبلي، كما أن في اليمن حالة طائفية معروفة إلا أنها لم تكن مصدر الصراع الذي انفجر بين شطري البلد بخلفياته الإيديولوجية والتاريخية البديهية.

لقد غاب عن الباحثين من مدرسة الأقليات ما أكده علماء الأنتربولوجيا الأوائل من أن التشابه وليس الاختلاف هو مصدر الصراع (ما أطلق عليه رنيه جيرار مقولة التنافس بالمحاكاة)، كما غاب عنهم أن المأزق الداخلي للكيانات السياسية العربية لا يرجع إلى هشاشة تراث الدولة وضمور شرعيتها التاريخية، وإنما ينبع من طبيعة مسار هذه الدولة وتحولاتها الراهنة التي تتميز بسمة أساسية هي: العجز عن احتكار هوية الانتماء الاجتماعي المشترك بما يترتب عنه من تفكك البنية المجتمعية وخروج العنف عن نطاق التحكم المركزي، مما لا يتسع المقام لتفصيل أسبابه ومحطاته. والواقع أن أغلب البلدان العربية تعاني من الخطر ذاته الذي يمكن أن يتولد عن احتمالات متباينة، منها انحسار فوائد النظام الريعي النفطي، و ظرفيات انتقال السلطة، والأزمات الاجتماعية الخانقة، وتأثيرات الوضع الإقليمي المتفجر.

ثانيا: أثبتت الحالة الصومالية أن انهيار الدول لا ينتج عنه الرجوع التلقائي لحالة ما قبل الدولة، سواء نظرنا إليها إيجابا كوضع طبيعي لمجتمعات رافضة لمنطق السلطة المركزية (الأطروحة الانقسامية المعروفة في الأنتربولوجيا السياسية) أو نظرنا إليها سلبا كحالة فوضى مدمرة وعنف أعمى (الأطروحة الهوبزية الشهيرة). فما كشفت عنه الحالة الصومالية هو أن انهيار الدولة المركزية خلف معادلة سياسية واقتصادية وأمنية لها منطقها الداخلي وتوازناتها المحلية والإقليمية والدولية، في ما وراء ظواهر العنف والمجازر الرهيبة. من هذا المنظور يتعين التنبيه إلى أنماط الحكومية (gouvernance) الجديدة التي أبدعتها الديناميكية الإقليمية التي قامت على أنقاض الوحدة الإقليمية المنهارة، ومنها على سبيل المثال السلطنات الأصولية المتأثرة بنموذج طالبان التي كادت تسيطر على البلاد كلها، ودولة صومال لاند الانفصالية المستقرة بل المزدهرة اقتصاديا نسبيا. كما يتعين التنبيه إلى الفضاءات الاقتصادية النشطة المندمجة بقوة في منظومة العولمة باعتبار تمحورها حول إقطاعات زراعية ورعوية ومعدنية محمية لها صيغها التسويقية والتبادلية وأنظمتها النقدية الفعالة، ينضاف إليها نظام القرصنة النشط الذي له مجاله الحيوي الواسع وإطاره الجيوسياسي المحدد (الحركات الانفصالية والمجموعات الإرهابية وشبكات التهريب التي تتحرك بحرية في الفضاء الفسيح الممتد من شواطئ القرن الإفريقي إلى صحراء غرب وشمال إفريقيا). ومن هذا المنظور يغدو كل إهمال عربي للوضع الصومالي خطأ استراتيجيا خطيرا. قد يبدو النموذج العراقي أصلح للمختبر السياسي العربي، بالنظر إلى مركز العراق المحوري استراتيجيا وتاريخيا واقتصاديا داخل المنظومة العربية (في الوقت الذي تطرح الهوية القومية للصومال إشكالات معروفة)، بيد أن الأزمة العراقية تظل على الرغم من طبيعة عوامل التصدع الذاتي نتيجة لواقع الاحتلال وتدخل القوى الإقليمية في تركيبة ورهانات المعادلة الداخلية. والخلاصة التي نخرج بها هي أن التأثير الحاسم وغير المحسوب يأتي دوما من الأطراف والهوامش، لا القلب والمركز، ومن ثم الاهتمام العربي المطلوب بالحالة الصومالية.