تأملات سياسية.. فيما (وراء) مسألة توقيف البشير

TT

لكي نسير تحت راية واحدة منذ البدء، وننطلق من (مسلّمة) قد انعقد الإجماع البشري عليها، ينبغي أن نفرغ من البت في قضية لا يجوز أن ينشب حولها خلاف بين البشر، إذ هي قضية لا تحتمل الخلاف بوجه من الوجوه. تلك هي قضية (العدالة) التي يتوجب أن تتوافر للناس، فهي ليست مجرد نزعة حقوقية، أو مسألة قانونية عادية، وإنما هي قضية أوحاها وأمر بها الله عز وجل: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل». فإذا كان عامة الناس ملزمين بإقامة العدل بمقتضى الفطرة والعقل والقانون، فإن المسلمين ملزمون بإقامة العدل بموجب الإيمان الديني، مع اشتراكهم مع سائر الناس في لوازم الفطرة والعقل والقانون العرفي العام. ومن هنا نحن لسنا ضد (عدالة دولية) تنصف المظلومين وتدين الظالمين، بيد أن العدالة الدولية لا يستقيم ميزانها - قط - إلا بتعميم أحكامها على الوقائع المتماثلة كافة، بمعنى أن تكون مطّردة شاملة، لا انتقاء فيها ولا استثناء، وإلا فإن السؤال العدلي القانوني الأخلاقي الضخم والضروري يظل بلا جواب، وهو: أين العدالة الدولية في محاكمة من ارتكب جرائم حرب في العراق.. وفي جنين.. وفي غزة.. وفي قانا.. إلخ؟.. وترك هذا السؤال المحرج بلا جواب يدمر مصداقية العدالة الدولية في ضمائر البشر ووعيهم وعقلهم وتفكيرهم، ولذا فإنه من الحرص على مصداقية العدالة الدولية أن تكون أحكامها عامة، وألا يكون هناك أحد فوق موازينها وأحكامها.

وحسبنا هذه السطور في قضية (العدالة الدولية)، وفي أمانة تطبيقها، وعندئذ ينفسح السياق ل (تأملات سياسية عديدة)، ينفسح لها موضوعا واعتبارا وتوقيتا:

1- التأمل السياسي الأول هو أن قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير، والضجة الكبرى حول هذا القرار، كانا خدمة غير مباشرة وغير مقصودة لعمر البشير! فالملحظ العام يقول إن الشعب السوداني قد ازداد التفافا حول رئيسه لأسباب كثيرة.. وهذا الالتفاف قد يكون (دعما انتخابيا) مبكرا له في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بحسبانه (بطلا وطنيا) مستهدفا من قبل قوى خارجية معادية.. وحزب الرئيس وآلته الإعلامية لن يفوتا فرصة استثمار هذا المناخ في مكاسب انتخابية وسياسية.. ويظهر أن هناك قوى إقليمية ودولية تخصصت في تقديم (خدمات سياسية مجانية) لخصومها، وهي خدمات تتابعت وقائعها حتى كادت أن تشكل (ظاهرة) جديرة بالتأمل والدراسة:

أ- كانت الدعاية الغربية وراء هزيمة الإصلاحيين في إيران لصالح صعود نجم أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية الماضية، إذ ظهر مرشح الإصلاحيين - في مرآة تلك الدعاية - وكأنه مرشح (الغرب) في إيران!! وبمقتضى هذا التبني الغربي لمرشح الإصلاحيين وبرنامجه، نفر الإيرانيون منه بناء على مقولة: إن الغرب لا يريد لنا الخير، وإن انحيازه لمرشح الإصلاحيين دليل على أن هذا المرشح هواه غربي لا إيراني، فلنسقطه، ولننعطف نحو نجاد.. وقد كان!!

ب- في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة صوتت إدارة بوش وإسرائيل لصالح حماس!! صوتتا لحماس بالحملة المكثفة على الأخيرة، وصوتتا لحماس بخذلان فتح السياسي والاقتصادي منذ أوسلو وحتى الانتخابات.

ج- وخدمت إسرائيل حماس خدمة سياسية تاريخية بعدوانها الأخير على غزة، فبسبب هذه الحرب انكسرت حدة الحصار (في هذه الصورة أو تلك)، وأصبحت حماس طرفا رئيسيا في المفاوضات التي تقودها مصر.. يضاف إلى ذلك الكسب السياسي والإعلامي الذي ظفرت به حماس في الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي. وثمة نقاد استراتيجيون إسرائيليون كثر تحدثوا عن ذلك وانتقدوا قادتهم واتهموهم بالغباوة وقصر النظر.

2- التأمل السياسي الثاني هو أن وراء ما يجري على السطح شيئا خبيثا (تحت السطح). فدارفور منطقة مفعمة باحتمالات قوية في وجود كميات هائلة من البترول (لاحظ الحضور الصيني القوي هناك مثلا)، ثم في دارفور حفرة ضخمة تسمى (حفرة النحاس)، وهي جزء من حزام اليورانيوم الذي يزخر بمعدلات عالية وخصيبة من مقومات الطاقة النووية. وهذا كله يمثل عاملا حيويا وحاسما من عوامل الصراع في تلك المنطقة، وهو صراع له أبعاده الخارجية بكل توكيد.

3- التأمل السياسي الثالث هو أن دارفور منطقة استعصت عقودا أو قرونا عديدة على ما يسمى بحملات (التبشير) أو التنصير. فهي أولا منطقة مسلمة 100%، وهي ثانيا منطقة يوجد فيها من أعداد حفظة القرآن ما لا يوجد في أي منطقة أخرى، وهي ثالثا منطقة كانت بمثابة (المخزن البشري) لحركة المهدي الجهادية التي استمدت عنفوانها من مقاومة الاستعمار البريطاني. لهذه الأسباب مجتمعة تتعرض دارفور لضغط دولي عمودي تحت مختلف الرايات والشعارات.

4- التأمل السياسي الرابع هو أن (اليد الصهيونية) فاعلة في الأحداث هناك،

وهذه وقائع وقرائن تنقل القضية من دائرة (التخيل التآمري) إلى دائرة (التوثيق الموضوعي):

أ- في منتصف عام 2008 تعهد الملياردير المعروف جورج سوروس - ونفذ تعهده فعلا - بتمويل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. ويتعين التأمل - ها هنا بوجه خاص - في أمور ثلاثة: الأمر الأول أن هذه المحكمة فرع أو هيئة من (مجلس الأمن)!! الأمر الثاني أن سوروس نفسه كان أبرز الساعين والناشطين في الدعوة القوية إلى إنشاء هذه المحكمة عام 2002!! الأمر الثالث أن جورج سوروس نفسه كان يعمل في جهاز النازي إيخمان الذي قام بتطهير عرقي وحرب إبادة نازية عام 1944!!

ب- يقول الناشط الأمريكي ليندون لاروش: إن المحكمة الدولية صممها وموّلها وأخرجها للوجود جورج سوروس، المتدرب على يد النازيين، والذي كان مسؤولا عن تنفيذ الإبادة النازية للبشر.

ج- يقول الرئيس السابق لجهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك) آفي ديختر (وهو وزير في الحكومة الإسرائيلية الآن).. يقول: «إن إسرائيل لا تدير الشأن الفلسطيني فقط، بل لها نشاط في عدد من الساحات في دول أخرى، منها السودان.. وتعتمد إسرائيل على النشاط العسكري، ثم على خيارات أخرى، منها: توظيف الجماعات الإثنية في السودان.. وقد يسأل البعض: لماذا التدخل في شؤون السودان، في الجنوب من قبل، ثم في الغرب الآن؟ وجوابنا أننا نفعل ذلك لأن السودان ظل مشاركا دائما، وبشكل مباشر، في القضية الفلسطينية، وأن السودان بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه يمكن أن يصبح دولة إقليمية قوية ونافذة، ونريد أن نفوت عليه فرصة التحول إلى قوة إقليمية.. يجب ألا نسمح (!!!!) لهذا البلد رغم بعده عنا أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي».

د- ومن قبل خاطب سلفان شالوم وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، خاطب مجلس الوزراء الإسرائيلي فقال: «إن إسرائيل تواصل مساعيها لمساعدة الجهود المتعلقة بالمأساة الإنسانية في دارفور، وإن أمة إسرائيل التي كانت لها معاناة عظيمة في الماضي، لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء الآلام التي تعصف بجماعات إثنية في دارفور».

والمهم - من قبل ومن بعد - التفطن إلى المخاطر، والتنبه إلى المحاذير. ومن هذه المخاطر والمحاذير: إدراك أن ما حدث (سابقة) غير مسبوقة، وأن تسجيل (سوابق) - محلية في أي دولة - قد تعتمد على (وقائع مصطنعة) أو مدبرة، إثنية أو دينية أو طائفية أو نوعية (كدعوى اضطهاد المرأة أو اضطهاد طائفة دينية) على سبيل المثال.. ثم بناء على هذه السوابق يحصل التدخل في شؤون الدول، أو اعتقال رؤسائها باسم القانون الدولي أو المحكمة الجنائية الدولية. وليس من الواقعية ولا ضرورات الأمن الوطني استبعاد هذا الاحتمال، فمن صميم السياسة الحصيفة حسبان الاحتمالات كافة.

والمهم - من قبل ومن بعد كذلك - أن تحليل الأحداث ينبغي أن يغوص حتى يتمكن من (كشف خلفيات الأحداث)، وإلا ظل التحليل ناقصا والتفسير ساذجا، وعلى نحو يتعذر معه تكوين رؤية صائبة وموقف صحيح ناضج.

ثم.. ثم من قبل ومن بعد يجب أن تجد الحكومة السودانية حلا جذريا وعادلا لأزمة حقيقية هي أزمة دارفور، حلا لا يكتنفه تردد ولا مكابرة ولا تسويف، فالعالم كله لا يستطيع أن ينوب عن السودان في هذه المسؤولية الذاتية.