شرم الشيخ.. وخيارات الفلسطينيين

TT

ما هو مقياس النجاح في مؤتمر شرم الشيخ؟

هل يقاس النجاح بميزان سياسي؟

أم يقاس بأرقام المبالغ الهائلة التي تعهدت دول كبيرة بتقديمها للسلطة الوطنية الفلسطينية؟

أم يقاس بالشخصيات والزعماء الذين لبوا دعوة مصر لتحميل العالم مسؤوليات ضخمة تجاه الفلسطينيين؟

كيف يعرف الفلسطينيون من هو الصديق الحقيقي وقت الأزمات، ومحاميهم أمام الرأي العام العالمي؟ والوسيط، محل الثقة، للتعامل مع الإسرائيليين؟

أم أن النجاح هو ضمان وصول التبرعات إلى من ينفذ إعادة إعمار غزة دون وقوعها في يد الأشرار الذين يتحملون قدرا كبيرا من مسؤولية تدمير غزة بإشعال الحرب في المقام الأول؟

أم نجاح الدبلوماسية المصرية في انتهاز فرصة تجمع زعماء 87 دولة ومنظمة عالمية، لتفعيل عملية السلام؟

بعض من أسئلة ناقشتها مع مراقبين مصريين وأجانب خلال زيارتي للمحروسة لتغطية مؤتمر المانحين لإعمار غزة، وكان التركيز على السؤال الأخير.

دبلوماسية مصر كانت ناجحة، بدليل اشترك الحشد الهائل وضخامة التبرعات ( قرابة 4 مليارات ونصف المليار، أي بمعدل 402 ألف دولار للفرد في غزة).

وسيستمر دور مصر، كالقوة الأثقل وزنا والأقدم إقليميا، على نفس النهج، فالاستقرار على شمال الحدود الشرقية ضمن أولويات الأمن القومي المصري.

ورأت الأهرام، أهم الصحف القومية في مصر، «أن العالم الذي اجتمع في شرم الشيخ بات أكثر وعيا بخطورة التأخر في التوصل إلى تسوية سلمية للمشكلة». فالدور المصري تجاوز إعادة الإعمار إلى إقناع المشاركين بضرورة التوصل لحل سياسي.

كل سياسي فلسطيني التقيته أكد أن صديقهم الدائم وقت الأزمات هو مصر، وليس مناضلو الفضائيات القومجية باتهاماتهم الباطلة لمصر، هادفين التغرير بعقول الشباب في محاولة مضحكة لخلق ضغط داخلي، متوهمين انه سيجر الجيش المصري لدخول حرب بدأتها إيران ومحور التشدد والتطرف.

وقد لخص سياسي فلسطيني مؤتمر المانحين «بصفعة على قفا القومجية وشلوت لمناضلي الفضائيات الجهادية».

فبدلا من أن يفتح من احتلت أراضيهم جبهتهم، أو حتى التبرع بالدم، حسب قول الرجل نفسه، ارتفعت أصواتهم باتهامات كاذبة ضد مصر. محافظ سيناء، محمد إبراهيم شوشة، أكد تسلمه أمر الرئيس حسني مبارك بفتح معبر رفح لاستقبال الجرحى في قافلة سيارات الإسعاف المصرية، فرفضت حماس عبورهم وتركتهم ينزفون، مشترطين فتح المعبر «سبهللة»، وهو ما لا ترضاه أي دولة، خاصة إذا كانت تعرضت لإرهاب جماعات خرجت من الرحم الذي ولدت منه حماس.

صمتت المدافع، وتلفت الفلسطينيون حولهم لمن يأخذ بيدهم لإعادة بناء ما دمرته الحماقة، فانسحب الثوار القومجية في هدوء، ولم يجدوا غير مصر.

مصر التي دفعت تكاليف حرب 1948 كاملة لبقية البلدان الأخرى المشاركة حسب الوثائق. مصر التي خاضت الحرب تلو الأخرى من أجل فلسطين، ومن أجل سوريا 1967 (بدأت بمناوشات بينها وإسرائيل بسبب عمل الأولى على تحويل مسار المياه).

الحرب الوحيدة التي خاضتها مصر من أجل مصلحتها القومية كانت 1973 لاستعادة أرض فقدتها بسب حماقة سياسات القومية العربية.

ومصر تحطمت مدنها، وهجر سكانها من منطقة القنال، واستقطعت المليارات من ميزانيات التعليم والصحة من أجل إصلاح ما أفسدته شعارات القومية العربية، بعكس مطلقي الفضائيات والشعارات الجوفاء الذين لم يعرفوا ويلات الحروب وتضحياتها، الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة لتحرير أرضهم المحتلة لـ36 عاما، ومصدرو الثورة الإسلامية وايدولوجية ولاية الفقيه، ووجهوا «صبيانهم» بحماس شديد لشن الحملات لإرهاب مصر والبلدان العربية التي تبذل جهودا خارقة في دبلوماسية التسوية، اختفوا من الساحة عندما حلت ساعة الجد التي تطلب حكمة الرجال وصبر الحكماء.

فإدارة سياسة ودبلوماسية تسوية الصراع أكثر صعوبة وتعقيدا من إدارة الحرب، مثلما اكتشف الرئيس الراحل أنور السادات، الذي فقد شقيقه الطيار في الساعات الأولى لحرب 1973.

الخلافات والصراعات تسوى بالطرق القانونية المتحضرة، مثلما أكد العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني في قمة الرباط عام 1980.

سياسة مصر الثابتة في عهد الرئيس مبارك أن جيشها سيحارب فقط لحماية تراب المحروسة ومصالح الأمة المصرية، وعند الضرورة القصوى. ( في استطلاع بريطاني مستقل لرأي المصريين أثناء الانتخابات الرئاسية عام 2005، قال تسعة من كل 10 صوتوا لمبارك لأن البلاد لم تخض حروبا في عهده).

أقدمت الدول الكبرى على التبرع بالملايين (تبرعت أمريكا وحدها ب 900 مليون دولار) ، بعد التأكد من أمرين؛ ضمان وصول الدعم للقائمين على البناء وليس لمقاتلي حماس لحساب إيران؛ وثانيها أن يرتبط جهد التعمير بالتوصل لتسوية سياسية، حتى لا تتكرر دورة الصراع ويجدون أنفسهم في الموقف نفسه في صراعات قادمة.

ولا يمكن تطبيق الشرطين دون الدور الريادي المصري.

فالأول يتطلب الإصلاح السياسي في فلسطين كضرورة عملية اكبر من شعار «لم الشمل». فالإصلاح يعنى تخلي فرع الإخوان المسلمين في غزة المعروف بحماس عن المراهقة الثورجية والعنف العدمي (فهدفهم بالقضاء على إسرائيل، يعني عمليا فناء الطرفين، إلى جانب انه مرفوض قانونيا وأخلاقيا) وتخليهم عن دور مخلب القط الإيراني لـ«خربشة» الجلد المصري؛ ودخولهم نضج نواة الدولة تحت إدارة السلطة الشرعية.

وبسبب رفض العالم التعامل مع حماس، فلا غنى عن دور مصر لضمان حقوق الجميع في معادلة التسوية الفلسطينية / الفلسطينية؛ خاصة أن مصر لن تسمح بأن تكون حدودها الشمالية الشرقية خط المواجهة غير المباشرة مع إيران.

الشرط الثاني وهو التسوية الشاملة، أي حل الدولتين، هو أيضا هدف إقليمي ثابت من أهداف السياسة الخارجية المصرية. مصر في موقع ثقة الأطراف المختلفة ولها علاقات دبلوماسية مع الجميع.

الخيار اليوم أمام الفلسطينيين، بكافة فصائلهم، إما اللحاق بقطار السياسة الثابتة الذي تقوده مصر، أو البقاء مع الذين فاتهم القطار الأخير (مثلما فاتهم قطار مؤتمر ميناهاوس قبل ثلاثة عقود قبل بناء المستوطنات) فقرروا السير في الاتجاه المعاكس بشعاراتهم الثورجية.

وأرجوا ألا يصدق الفلسطينيون ما يرونه على شاشات الفضائيات التي تضخم مظاهرة من بضع مئات (أو حتى آلاف) من مراهقين يتلقون مصروف الجيب من «بابا» ، ويصدقون أنهم يعبرون عن ضمير أو رأي 80 مليون اغلبهم انخفض مستوى معيشته بسبب الحروب مابين 1948- 1973.

صحيح أن أبناء الأمة المصرية صابرون، طيبون، متسامحون، لكن أكثرية بسطائهم يقولون إن الكيل طفح بهم من «مقالب» العرب، ومن نكران الجميل، ومن عدم استيعاب الفلسطينيين أنفسهم للدروس الباهظة الثمن. وأرجو ألا يفوتهم القطار الأخير.