التسلح الإيراني.. وكيفية معالجته

TT

في أكثر من مناسبة، أعربت طهران عن امتعاضها مما أسمته إقحام بعض الدول العربية في قضيتها النووية، بتوسيع دور الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا، ليشمل دولا عربية. فيما الكثير من المسؤولين الإيرانيين يتحدثون عن أن بلادهم أصبحت قوة صاروخية كبيرة في العالم، ويصعّدون تصريحاتهم بتجديد ادعاءات استفزازية بالتوازي مع التطورات المعلنة للتسلح. ويبقى السؤال قائما عن مبرر عمليات التسلح الضخمة، في ضوء عدم وجود «أي» تهديد لمصالحها المشروعة، وليس النوايا التوسعية، وآخرها ما حصل من استفزاز غير مبرر لمملكة البحرين، من قِبل مسؤولين رفيعي المستوى.

النوايا تتربع (دائما) على قمة الأسرار، إلى جانب البحوث العلمية الخاصة والصناعات الحربية الحساسة، وما يدعو إلى ارتياح المتابعين أن طهران لا تخفي - بغير حسنة نية - سعيها المتواصل لبناء قوة ضربة تقلق الدول الإقليمية والعالم، وتوفر لأجهزة الاستخبارات المقابلة جهدا ينبغي صرفه لمتابعة عمليات التسلح، التي تعكس النوايا، وتثير قلقا يواصل خطه البياني صعودا، لا توقفه تغطية لا يعول عليها، كأن يقال إن الدين لا يسمح بامتلاك سلاح نووي.

هنالك فهم خاطئ في تصنيف أسلحة الدمار الشامل، عندما يراد اعتبار الأسلحة الكتلوية محددة بالقنابل الذرية والكيماوية والبيولوجية، فالصواريخ (العمياء) البعيدة المدى، غير الموجهة إلكترونيا، على شاكلة الترسانة الحربية الإيرانية، تشكل سلاحا للتدمير الشامل، لأنها تلحق ضررا فادحا بالمدنيين، فيما هي قاصرة عن تحقيق أهداف عسكرية. وقد دفعت التجارب الإيرانية الكثيفة لصواريخ شهاب وغيرها، دولا عربية إلى شراء منظومات صواريخ مضادة للصواريخ، وقد تضطر هذه الدول إلى الذهاب أبعد من ذلك، لولا نياتها الدفاعية، وربما معوقات مؤقتة لشراء صواريخ بعيدة المدى موجهة إلكترونيا، تمكنها من تكوين وسيلة ردع، بتأمين قدرة تدمير للأهداف الحساسة التي تتطلب ضربات نقطوية مباشرة، ترتبط بالقدرات القتالية العليا لجهة التهديد. فإذا ما شعرت جهة التهديد أن مئات المؤسسات الحساسة، تشكل أهدافا سهلة أمام الطرف الآخر، فستعيد النظر في حساباتها.

الحروب الدفاعية لا يمكن أن تكون ناجحة، من خلال مراقبة الفضاء بانتظار رشقات صاروخية، يستحيل النجاح في تفادي أضرارها، بل تقليلها. كما تبقى تعقيدات مسألة التسلح العربي الدفاعي المتقدم مرتبطة بحالة عدم إحلال السلام مع إسرائيل، الذي تحتم المتطلبات المصيرية الوصول إليه بعدل وبسرعة، لأن التهديد الرئيسي بات من الشرق تحديدا.

وتعمل إيران على التوسع في قدراتها البحرية في مجال الغواصات والزوارق القتالية السريعة وصولا إلى المدمرات والفرقاطات وسفن الإنزال، وهو توجه يزعج الدول الصغيرة في الخليج لأنه يؤمّن قدرة إنزال بحري واسع. ولا يهمها في حال كهذه أن يكون الطرف الآخر سيملأ ظهر الخليج والبحر قطعا حربية، لأنها تمتلك طاقة بشرية كبيرة، ومن الخطأ الانسياق في تسابق على أساس الكم العددي في السفن القتالية، بدل الحصول على صواريخ موجهة دقيقة ضد السفن والغواصات، من قواعد أرضية، ومن الطائرات. وقد أثبتت التجارب أن قوة جوية مجهزة بصواريخ حديثة مضادة للسفن والغواصات، يمكنها حسم الموقف خلال وقت قصير، وكبح القوات البحرية المتاحة لدول العالم الثالث. وهذا جانب يتطلب تعاونا مع الدول الغربية الرئيسية، خصوصا أميركا وبريطانيا، التي تمتلك صناعات جوية وبحرية وبرية متقدمة، وأن ما قيل عن أن القوة الجوية لا تحسم حربا، مع افتراض صحته نسبيا، لا ينطبق على العمليات البحرية الكبرى.

وفي مجال الجو، لا تزال الطائرات الإيرانية من الأجيال القديمة، أو متخلفة تقنيا، بما في ذلك معظم الطائرات القتالية العراقية التي صادرتها إيران. وتشكل طائرات «إف 14» الجزء الأساسي من قوة الاعتراض الجوي، إلا أنها (إيران) لم تعد تمتلك منها إلا عددا محدودا من الطائرات الصالحة من أصل نحو 75 طائرة حصلت عليها في زمن الشاه، بسبب العقوبات المفروضة عليها، أما طائرات الفانتوم «إف 4» وطائرات «إف 5» والطائرات الصينية فباتت خردة مقابل الطائرات الغربية الحديثة المجهزة بها دول عربية. ولا تمثل الطائرات الروسية الصنع تحديا جديا للطائرات المقابلة، لذلك ينبغي العمل على حرمان إيران من تطوير قدراتها الجوية.

تأخذ التهديدات المرتبطة بالكثافة البشرية على مستوى القوات البرية، أسبقيات متأخرة في لائحة التهديدات، لكون الطرف الآخر لا يمتلك وفقا المعطيات الجغرافية الحالية حدودا مباشرة مع الدول العربية عدا العراق، وإن اجتياحا مباشرا عبر البصرة، في حال تصادم المصالح بين البلدين كحساب لأسوأ الاحتمالات، تكون الكويت معنية به كمرحلة حاسمة، أما التغلغل في العمق فيمكن صده بالموارد المحلية البرية والجوية، بعد تطويرها. لكن هذا التوصيف لا يقلل من ضرورة بناء قوة مدرعة سريعة، وأكثر ما يمكن من المروحيات القتالية المساندة. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن إيران لم تقلص بعد انتهاء حرب الخليج الأولى عدد قواتها الأساسية، كما هو مفترض، بل عملت على تحديثها بما هو ممكن، وتوسعت كثيرا في مجال التصنيع العسكري. ولسوء حظ المنطقة، لم يعر العالم اهتماما للتوجهات العسكرية الإيرانية، بسبب حرب الكويت.

هذه الحقائق تعرفها إيران، أو هكذا يفترض، وهي في ضوء ذلك تعتمد استراتيجية مختلطة، تتضمن قوات برية ضخمة، تحت هاجس الخوف، أو اصطناعه، من غزو بري لا وجود له، لا الآن ولا في المستقبل. أو لتحقيق أهداف توسعية. ومواصلة بناء ترسانة صاروخية ضخمة وقدرة نووية، وربما أسلحة بيولوجية وكيماوية أسدل الستار عليها.

لا شك أن التراجع الكبير في أسعار النفط عن الطفرة الكبيرة، وهو ما توقعه مبكرا الأخ رئيس تحرير «الشرق الأوسط»، وربط بينه وبين قدرة إيران على مواصلة نهجها الحالي، يؤثر على قدرة إيران على مواصلة برامج العسكرة، خصوصا مع ارتفاع أسعار المعدات القتالية المتطورة، بما في ذلك الروسية، إلا أنها قطعت شوطا طويلا وحاسما في المجال النووي، ولم تعد في حاجة إلى المال لبلوغ غايتها. فما مطلوب من مال لهذا الغرض لا يعد مهما مقارنة بتسليح قواتها التقليدية. ومن الخطر الشديد تصديق «أي» تقرير يتحدث عن حاجة إيران إلى خمس سنوات وأكثر لتصنيع قنبلة ذرية، فالمؤشرات كلها تدل على أنها أقرب بكثير.

أما الحديث عن مظلة نووية أميركية للمنطقة فيبقى قاصرا، إذا ما أخذ مسوغا لقبول إيران نووية، لعدم ضمان بقاء المعادلات والمصالح الدولية على ما هي عليه الآن لفترة طويلة. ومن يضمن استمرار قوة أميركيا على ما هي عليه؟ وما سعة المظلة المطلوبة واشتراطات تنفيذها؟

قدر الخليج أن أصبح خط التماس المباشر مع التهديدات، لكنه يمتلك من المؤهلات ما يجعله قادرا على حماية وجوده، مع ضرورة الحرص الدائم على علاقات قوية مع الغرب دون التفات إلى الشعارات. وهنالك حزمة من ملاحظات العمل، في وقت آخر، لتجنب الإطالة.

مرة أخرى، المطلوب رسالة دولية قوية، عسى أن تدرك إيران أبعادها. وأشك في الاثنين.

[email protected]