يا شعراءنا الفطاحل.. استفيقوا!

TT

دراسة جديدة تنذرنا بأن 1% فقط من الفرنسيين يقرأون الشعر. والفرنسيون شعب قارئ، وعندهم 500 مجلة متخصصة في الشعر ومئات الناشرين المعنيين به. فما نسبة العرب الذين يقرأون الشعر، إذن؟ هذا سؤال برسم شعرائنا الفطاحل الذين يتشاتمون في القاهرة ويتعاركون على اقتسام «كعكة المجد». ليس فقط أن كل مجموعة تقيم مهرجانها هذا الشهر، وتجمع أنصارها، وتنعت الفئة الأخرى بالضلال والبهتان والتعالي، بل إن حفر المكائد على أشده، والتباغض بلغ مراحله القصوى. وفي فرنسا احتفالات بالشعر أيضا هذه الأيام ضمن «ربيع الشعراء»، لكنهم هناك لا يشعرون أن الدنيا تضيق بالبعض ولا تتسع إلا لحفنة من الشعراء، بل يعتبرون العالم كله مسرحهم، والآذان على اتساع الأرض موضع تنافسهم. وشتان بين من يعتقد (رغم عظمته) أن قاعة - نصف أو ربع ممتلئة - هي آخر ما يقاتل في سبيله، ومن يرى أن نشر الشعر على مدى البسيطة هو هدفه. وكلما أقام أهل الضاد مهرجانا شعريا في قبو عربي، ملأوا الدنيا صراخا وضجيجا وخلافات، على من دعي ومن نسي، ومن حصل على تذكرة طائرة في الدرجة الأولى. وهذه باتت من تقاليد شعرائنا، حفظهم الله، وجزءا من طقوسهم، في زمن لا جمهور للشعر فيه سوى كتابه. وهذا بحد ذاته قتل للشعر، ودفن لما تبقى من جذوة الشاعرية، في أمة تدّعي مقارعة العنف حتى آخر عنيف في أرجائها. وقد أثبت شعراؤنا المعاصرون أن لهم من العنف والدناءة اللفظية ما يباهون به الأمم ويفاخرون. وكي تعرف الفرق بين بني يعرب وبني فرنسيس، افتح الموقع الفرنسي المخصص لـ«ربيع الشعراء»، وقارن بين ما تقرأه هناك والمقالات الهجائية والشتائمية المخصصة لمؤتمري الشعر المصريين المنتظرين. ونؤكد لك عزيزي القارئ، أن الصدمة لن تفارقك وأنت تقارن بين ذهنيتين، إحداهما ضيقة الأفق، ضعيفة البصيرة، لأشخاص لا يرون أبعد من نرجسيتهم، ورؤية أخرى مؤسساتية قائمة على التخطيط المحنك والتدبير المبرمج، لتحقيق أهداف وطنية تتجاوز حدود الوطن إلى أرجاء الدنيا. صحيح أن شعراءنا لا يعجبهم العجب، لكن رؤية رسمية انفتاحية، تفرض نفسها على الجميع، لو هي توفرت، ستكون مقاومتها صعبة ومحاربتها متعذرة.

وبينما لا تزال الندوات العربية تسأل منذ فتحنا أعيننا على الدنيا: «الشعر إلى أين؟» و«ما مستقبل الشعر؟» و«ما الذي يقدمه الآن؟»، ويرد عليهم شعراء آخرون بندوات تسأل عن «إشكاليات قصيدة النثر؟» و«وموقف المؤسسة الرسمية من قصيدة النثر؟» و«الإعلام ودوره في تقديم قصيدة النثر؟» وكأنما قصيدة النثر هي آخر ما جادت به القريحة البشرية، نجد أن الأمم الأخرى قطعت أشواطا، وأجرت دراسات، وعاينت المرض، وبدأت في العلاج، وها هي تقطف الثمر.

فـ«ربيع الشعراء» الفرنسي هذا العام له هدف صريح وواضح وهو «فتح شهية الناس العاديين على تذوق الشعر». وليس تبجيل هذا ونفخ ذاك الأديب. وبكلام بسيط ودمث يقولون للجمهور: «لا تخافوا من الشعر، إنه يضحككم ويسليكم وينتشلكم من كآبتكم». والاحتفال الفرنسي هو بالشعر الذي يضحك. ونراهن أنه عنوان كان سيستجلب سخط 99% من شعرائنا لو اقترح عليهم، وهم الذين يعتبرون الألم والبكاء مهنتهم، واعتصار عوالج النفوس المعذبة هوايتهم، فيما الدموع تبلل عناوين دواوينهم. وهذا من أسباب النفور منهم، وتهميشهم وكساد مؤلفاتهم. وقد أخذ أصحاب الاحتفال الفرنسي على عاتقهم، تعليم الناس كيفية قراءة الشعر، لأن الدراسات تقول إن عزوف القراء يأتي من إحساسهم بالغموض وعدم الفهم. لذلك تقول الوصفة: «قراءة الشعر تتطلب بعض الجهد. عليك أن تفتح الكتاب، وتتحلى بشيء من الفضول والإرادة، وأن تأخذ وقتك، وتقنع نفسك بأن ما تفعله هو لك وحدك. بعدها انس المنطق اليومي المعتاد في القراءة من فوق إلى تحت. فمع الشعر، يمكنك أن تتوقف عند جملة، أو أمام كلمة متروكة ووحيدة. قارئ الشعر هو الذي يمنح ما يقرأه وقته، من دون أن يهتم كثيرا لأن يفهم كل ما يقرأ، وبسرعة». هكذا تتوالى الوصفات والدعوات للمشاركة. وبمقدور كل شاعر أو مستشعر أن يسجل اسمه على الإنترنت ويتصل بأقرب مؤسسة ثقافية من مكان سكنه لتمويله وتشجيعه، بعد أن يقدم مشروعه. وسيبلغ عدد الاحتفاليات التي سيكون مكانها الشارع والقطار والمستشفيات والمدارس وكل زاوية تصلح لقراءة الشعر، 15000 حدث في 60 دولة. ونحن لسنا من الجنون بحيث نطلب من المصريين أو الجزائريين تمويل هذا الكم الهائل من النشاطات، لكن شتان بين أمة تستطيع أن تنظم هذا العيد الضخم وتحيطه بفرح الأطفال، وأمة أخرى تسلّ سيوفها وتشهر خناجرها وحناجرها في حرب شعواء عند كل أمسية ومهرجان، يكون الشعراء أبطاله والشعر موضوعه. وهذه ليست خاصية مصرية، فعندما عقد مؤتمر قصيدة النثر في بيروت منذ سنوات، شهدنا نزالات كشّر فيها نخبة العرب عن أنيابهم، واستخدموا مخالبهم. وهو ما يفترض أن يتنافى وروح الشعر الحالمة، وشفافية أهله المترفعين.

ليس بالهجاء وحده يبنى صرح الشعر، فقد ترك لنا الفرزدق وجرير والأخطل وابن الرومي الذي قيل إن لسانه كان أطول من عقله، زاداً هجائياً، أضاف عليه شعراؤنا المعاصرون ما تيسر لهم، من قصائد ومقالات ومطالعات تشبه البيانات العسكرية. والفرق أن ثمة جيلاً عرف كيف يجعل من الشعر مكاناً للتنافس الفني، وآخر ينزلق بالشعر إلى التهلكة، حد التنفير، لا بل والتخويف. تروي صديقة ناشرة، أخذت نشر عشرات الدواوين على عاتقها، أنها تعبت من ترجّي أصحاب المكتبات، وإقناعهم، فقط بعرض دواوين شعرائها بالمجان. لكن هؤلاء يستخسرون إعطاء الشعر، الذي بات بضاعة كاسدة، مساحة، لعل الرواية أو كتب السياسة وربما التنجيم - بحسب رأيهم- أحق بها. وهنا تكمن معركة الشعراء الحقة التي يجب أن يناضلوا من أجلها، لا أن يتلهوا بمكايدة بعضها البعض، كي ينسوا همهم الحقيقي، وهو أنهم عظماء بلا قرّاء.

[email protected]