البحث عن استراتيجية عربية موحدة

TT

تشهد المنطقة العربية حوارا سياسيا مكثفا يبشر بالخير. يرتبط هذا الحراك بالقمة العربية المنتظرة أواخر هذا الشهر في قطر. ولهذا فهو حراك يسعى بالضرورة إلى تأمين أجواء النجاح للقمة. وهنا يخشى كثيرون أن يكون حراكا تغلب عليه المواصفات البروتوكولية، بحيث ينتهي مفعوله مع انتهاء أعمال القمة. ولكن إلقاء نظرة متفحصة على ما يجري تظهر بوضوح أن الأمور بدأت تتخطى هذا الجانب البروتوكولي، وتفتح الأبواب والنوافذ على ما هو أوسع وأفسح وأعمق. والمسألة هنا ليست مسألة رغبات بالطبع، ولكن طبيعة القضايا المطروحة، القضايا المختلف عليها والقضايا المطلوبة للتفاهم، تقود بالضرورة إلى أن يصبح البحث البروتوكولي بحثا استراتيجيا بكل ما في الكلمة من معنى. فالكل وهو يستعد للقمة، يجد نفسه أمام الموضوعات الأساسية التالية:

أولا: ضرورة إنجاز مصالحة عربية، ومحورها الأساسي هنا المصالحة بين السعودية وسورية، والمصالحة المصرية ـ السورية.

ثانيا: ضرورة إنجاز مصالحة فلسطينية، ترعاها وتقودها مصر، مع كل ما يحيط بها من إشكالات إسرائيلية.

ثالثا: دخول موضوع إيران على خط السياسة العربية، وتحوله إلى موضوع خلاف بين العرب أنفسهم.

وفي ضوء هذه القضايا أصبح أي بحث في ترطيب الأجواء قبل القمة ومن أجلها، هو بالضرورة بحث استراتيجي. فإذا نجح هذا البحث الاستراتيجي تحولت القمة المقبلة إلى قمة من نوع خاص، قمة ناجحة تنجز ما لم تستطع كثير من القمم السابقة إنجازه.

وقد كتب البعض، وأنا منهم، قبل أسابيع، قائلين إنه لا يمكن إنجاز مصالحة عربية جدية، إلا إذا تم إجراء حوار عربي معمق، من أجل رسم استراتيجية عربية في مواجهة الأحداث والتطورات من حولنا. وحين أطلق الملك عبد الله في قمة الكويت نداءه لنبذ الفرقة والتعالي على الخلافات، قلنا وأكدنا أن الوصول إلى ما يتطلع إليه الملك عبد الله، لن يكون بجلسات المصالحة فقط، بل هو يحتاج إلى لقاءات ومباحثات معمقة في قضايا وبنود الاستراتيجية العربية الموحدة. تم قول ذلك، وتم التركيز عليه، في ظل حالة نفسية تميل إلى عدم التفاؤل في الوصول إلى هذا المستوى من البحث، ولكن تطورات الأحداث نقضت تشاؤمنا، وكانت علامات تطورها كما يلي:

في البداية.. بادرت السعودية، عملا بنداء الملك عبد الله، إلى فتح باب الاتصالات مع دمشق، فوصل مندوب سعودي إلى العاصمة السورية (الأمير مقرن بن عبد العزيز) حاملا رسالة شفوية من الملك عبد الله إلى الرئيس السوري بشار الأسد. ويمكن اعتبار هذه المبادرة إنجازا سياسيا مهماً، لأنها كشفت عن الاستعداد لكسر الجليد مهما كانت درجة برودته، خاصة بعد أن اكتشفنا أن هناك أنواعا من الجليد الذي تتجاوز البرودة فيه درجة الصفر. ثم جاء تجاوب دمشق مع هذه الزيارة عبر زيارة وزير الخارجية وليد المعلم إلى الرياض حاملا رسالة مكتوبة ردا على الرسالة الشفوية، ناقلا بذلك الحوار من حال إلى حال، وبدليل ما تلا ذلك من أحداث. وما تلا ذلك من أحداث تمثل في لقاء ثلاثي في القاهرة بين وزراء خارجية مصر والسعودية وسورية، واعتبر هذا اللقاء الثلاثي تطورا مهماً، لأنه أعاد إلى الأذهان أجواء التحالف الثلاثي الذي كان قائما بين هذه البلدان الثلاثة في السبعينات والثمانينات، وهو التحالف الذي وفر حالة من التناغم والاستقرار للمنطقة العربية، وتمت في أجوائه حرب رمضان (حرب تشرين الأول 1973)، التي غيرت خارطة توازن القوى في المنطقة. وما أن انفض اللقاء الثلاثي المغمور بالذكريات، حتى انتقل سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي إلى دمشق، حاملا دعوة رسمية للرئيس الأسد لزيارة السعودية. وتشكل هذه الدعوة للزيارة بحد ذاتها، تتويجا لأجواء المصالحة العربية، لأن المفروض أن يكون اللقاء الذي سبقها، قد شهد مناقشة جادة وصريحة للقضايا المختلف عليها عربيا، وأن تكون الآراء أثناء النقاش قد شهدت تقاربا يبشر بنجاح الزيارة حين تتم، ويبشر أكثر بأن ما تم التفاهم عليه من مواقف، سيتجسد في مداولات القمة العربية، بحيث يخرج عنها التصور الاستراتيجي المنشود.

وهنا لا بد أن نتوقف عند التصريح المهم الذي أدلى به سعود الفيصل حول إيران، وحدد فيه ثلاث دوائر تنطوي على مخاوف عربية من السياسة الإيرانية. وهذه الدوائر هي: السلاح النووي الإيراني، وتصور إيران لموضوع الأمن في الخليج العربي، وتدخل إيران في قضايا عربية في كل من العراق ولبنان وفلسطين.

لقد برز موضوع إيران على أنه موضوع أساسي في الخلاف العربي الدائر. ونوقش موضوع إيران في أوساط الإعلام العربي بطريقة تجعل من الموضوع فزاعة كبيرة، وتجعل من إيران قوة سحرية عجائبية، تستطيع أن تتسلل إلى حيث تريد من دون أن يتمكن أحد من إيقافها. وأصبحت إيران حسب هذا المنظور نوعا من الوحش الخرافي الذي يحتاج إلى ساحر أو جني لمواجهته. أما حين جاء تصريح سعود الفيصل حول إيران، محددا الدوائر الثلاث التي تتجسد فيها المخاوف والمخاطر، ومجسدا الدوائر الثلاث التي يجب أن تتركز فيها محاولات البحث عن الحلول، فقد خرج البحث من إطار الأساطير إلى إطار النقاط المحددة، وهو ما يجعل مجال البحث، ومجال الاتفاق، ومجال الاختلاف «المفهوم» أمرا ممكنا ومفيدا.

هنا.. وفي موضوع إيران بالذات، لا بد من وضع أسس تحكم التعايش والجدل. أولها أن إيران دولة من دول المنطقة، أي إنها عامل باق ومتصل وليست عاملا طارئا. وثانيا: أن إيران وبحكم أنها دولة من دول المنطقة، لها حقوق وعليها واجبات. وثالثا: أن المراقبة العربية للسياسات الإيرانية تسجل عليها أخطاء وتدخلات، وتطالبها بالتوقف عن هذه التدخلات.

ويترتب على هذه النقاط الثلاث، أن إيران كدولة، لها وزن يجب أن يكون لها. ويجب على العرب أن يعترفوا لها بهذا الوزن. كما أن إيران كدولة يجب أن تعترف للآخرين في الإقليم، العرب والأتراك، بوزن يجب أن يكون لهم، يوازي الوزن الإيراني ويتفاعل معه، وبحيث لا يختل التوازن بطغيان وزن هذه الكتلة على حقوق وحجوم الآخرين.

ويترتب على هذه النقاط الثلاث، أنه لا يجوز لإيران أن تتدخل في الشأن العربي نقيضا للعرب، طالما أن الثقل العربي قادر على إنجاز مهماته بنفسه. وبمعنى أن الدور الإيراني مع العرب، أو الدور التركي مع العرب، لا بد أن يكون مكملا ومساعدا، وليسن دورا منافسا. ناهيك عن أن التدخل الإيراني في الشأن الداخلي العربي مرفوض، كما هو مرفوض التدخل العربي في الشأن الداخلي الإيراني. وعلى ضوء هذه القاعدة نحاكم ونناقش الدور الإيراني في العراق، ونرى فيه خطرا على العراق ومستقبله ووحدته الداخلية.

ويترتب على هذه النقاط الثلاث أنه حين تريد إيران أن تتعامل مع المواضيع العربية الأخرى، في لبنان أو في فلسطين، فلا بد أن يكون ذلك بالتنسيق مع العرب، لا بالقفز فوقهم، وبعد الحوار معهم، لا بالتسلل الخفي.

وأهمية التحديد في تصريح سعود الفيصل لنقاط الخلاف مع إيران، أنه يجعل البحث فيها أمرا واضحا ومنطقيا وممكنا، لأنه يخلص الخلاف من الغيبيات وألاعيب السحر.

ويبقى أن يتوقف بعض الإعلام العربي عن الحديث عن إيران، وكأنها العدو الأول للعرب، إذ لنا مع إيران خلاف وليس عداوة. وهذا التحديد هو الذي يمكننا من تحديد التخوم، وتقرير ما هو حق عربي، وما هو حق إيراني، ومن أجل صياغة تفاهم بين الطرفين، يتيح لنا عيشا مشتركا على رقعة الأرض نفسها.