واشنطن والوساطة التركية في الملف النووي الإيراني

TT

هي ربما حرارة القبلات التي وضعها الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز على خدي سيدة الدبلوماسية الأميركية هيلاري كلينتون وهو يستقبلها محصنا بالورود في تل أبيب. لا بل قد تكون التصريحات والمواقف الأميركية المعلنة من هناك حول أولويات المصالح الإسرائيلية التي كانت وستظل فوق الكثير من الاعتبارات والخيارات مهما تغيرت الإدارات وتبدل الأشخاص. من المحتمل أن يكون أيضا كل ما قيل وردد في إسرائيل حول حجم التعاون والتنسيق الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي حيال الوساطة التركية في الملف النووي الإيراني، هي كلها في مقدمة الأسباب التي تدفعنا للرهان على اقتناع قيادات العدالة والتنمية بضرورة مراجعة حساباتها ومواقفها خلال وضع اللمسات الأخيرة على سياسة إعادة تقويم أسلوب التعاطي مع قضية حساسة ومصيرية من هذا النوع.

تصريحات المبعوث الأميركي الجديد إلى الشرق الأوسط، جورج ميتشل، خلال زيارته الأخيرة إلى العاصمة التركية حول استعداد بلاده للعب دور الوساطة بين تل أبيب وأنقرة، للمساهمة في إعادة تحسين العلاقات التي تدهورت أخيرا بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة، وتفجرت في قمة دافوس ومواقف كلينتون الأخيرة قبيل زيارتها إلى تركيا، بأنها ستعطي الأولوية خلال محادثاتها مع المسؤولين الأتراك لمناقشة بدائل وخيارات ما بعد مرحلة فشل الحوار المباشر بين طهران وواشنطن، الذي تصر أميركا على أنه مجرد مجازفة لا تستحق المراهنة على خروجها بعكس المتوقع لها، هذا إلى جانب قرار واشنطن تكليف دنيس روس بمتابعة شؤون الملف الإيراني، وهو القرار الذي لم يعجب كثيرا من القيادات في طهران، مسائل تلتقي كلها أمام نقطة واحدة، هي استحالة خروج الوساطة التركية بأية نتائج إيجابية أو إحرازها لأي تقدم ضمن هذا المسار، ووسط هذا الكم الهائل من المواقف والتصاريح المضادة الصادرة عن أكثر من جهة، وضرورة قبول ذلك على أنه رسالة علنية إلى أكثر من طرف بأن أولويات وحسابات أميركا في هذه الآونة تختلف كليا عن الحسابات التركية التي تحاول حكومة أردوغان التمسك بها والرهان عليها.

أكثر ما يريد الغرب، وتحديدا واشنطن، معرفته في هذه الآونة هو طريقة تفكير الأتراك، وما سيقولونه في حال وصلت الجهود التركية في الملف الإيراني إلى الطريق المسدود، وتمسكت طهران بسياساتها النووية، وهذا من حقهم طبعا، طالما رأوا في تركيا شريكا أمنيا استراتيجيا قديما كانت واشنطن السباقة للتنسيق معها إبان الحرب الباردة، وطالما أنها وضعت مصالح البلدين في خندق واحد خلال المواجهة الطويلة مع الاتحاد السوفياتي ومحور أوروبا الشرقية. إدارة البيت الأبيض الجديدة تريد تحديدا أن تعرف من أنقرة كيف سيكون موقفها في المرحلة المقبلة عندما تنهي إيران من وضع اللمسات الأخيرة على مشاريعها النووية؟ ما الذي ستقوله حكومة رجب طيب أردوغان أمام انقلاب التوازنات العسكرية والاستراتيجية الإقليمية الواضح لصالح إيران؟ هل ستظل تركيا تكرر مواقفها المعروفة حول رفض تواجد هذا النوع من الأسلحة في المنطقة، أم إنها ستحذو حذو المجموعة العربية التي أطلقت أخيرا خطوة واضحة مبكرة لا تحمل أي التباس حول رفضها لما يجري أولا، ورفضها أن يكون الحل أو البديل على حساب مصالحها الإقليمية والاستراتيجية ثانيا؟

أنقرة ستكون مدعوة حتما في المرحلة المقبلة لتقديم الخيارات والبدائل العملية التي تطمئن الشريك الغربي. وإدارة أوباما ستكون أكثر حزما وتصلبا فيما ستقوله وتطالب به حيال الملف الإيراني ومساره، والرد التركي هنا، كما تقول، ينبغي أن يكون أهم وأكبر من موضوع تحديد موقف من القمر الاصطناعي الإيراني، أو محاولات شرح الآثار السلبية لتفاعلات هذه المسألة ضمن سياسة وأسلوب حسن النوايا، فيما يردد وزير الخارجية الإيراني على مسامع الإعلاميين الأتراك نكاته حول أتاتورك الذي دخل فجأة على لعبة المعادلات الإيرانية الإقليمية، خاصة في علاقاتها مع تركيا.

وواشنطن لا تريد الانتظار كثيرا حتى يبدأ الأتراك في إطلاق تحليل شامل ومطمئن حول الموضوع الإيراني لا بد أن يكون مختلفا شكلا ومضمونا عما قيل لإدارة بوش حتى الآن. وكل ما يمكن أن تقدمه كلينتون إلى أنقرة هنا هو بعض الوقت الإضافي، ربما ستطالب به حكومة أردوغان لمعرفة نتائج زيارة الرئيس التركي عبد الله غل المرتقبة إلى طهران، وما قد تحملها من مفاجآت أو بدائل جديدة، على الرغم من أن حكومة أوباما قالت مسبقا إنها لا تراهن كثيرا على تغييرات جذرية في مواقف طهران وطريقة تعاملها مع الموضوع. فواشنطن تنتظر على أحر من الجمر لإعداد خطتها البديلة وإطلاقها أمام تقدم إيران الاستراتيجي الواضح بعد انجازها وضع اللمسات الأخيرة على حملتها النووية ضمن نقلة نوعية بالغة الأهمية.

واشنطن، بإيجاز، تريد الاستماع من أنقرة إلى ما هو أهم وأبعد من جهود الوساطة، وهي متمسكة هنا بموقفها هذا الذي تعتبره من حقها كشريك استراتيجي لتركيا. فحماية هذه الشراكة لا علاقة له بالكثير من القضايا التي اعتمدت فيها أنقرة موقفا مختلفا عن إدارة البيت الأبيض كالحملة الأميركية في العراق والحرب الإسرائيلية على غزة، وهي تدعو هنا مثلا إلى ضرورة تجنب ما قد يوصف بأنه إغراءات إيرانية تذكر بما حاول فعله الرئيس العراقي صدام حسين عشية اندلاع الحرب قبل 6 سنوات من خلال تقديم عشرات العقود والاتفاقيات التجارية إلى الجار التركي لإقناعه بالوقوف على الحياد، ما لبثت أن تحولت إلى حبر على ورق بعد أيام من دخول القوات الأميركية إلى العراق.

أميركا تنتظر من تركيا أن تقول شيئا ما لإيران، قد يكون ضرورة عدم التفريط في فرص الحوار المباشر التي قد تظهر إلى العلن في الأيام المقبلة، لكنها في حال فشل مساعيها هذه تنتظر منها أيضا أن تفهم إيران أنها ستكون مجبرة على الحديث بلغة وأسلوب مختلفين عن اللغة والأسلوب الذي اعتمدته حتى الآن في حوارها معها. من أشاد بأردوغان بسبب مواقفه في غزة ودافوس ورشحه لنوبل للسلام، عليه أن يتفهم مواقفه أيضا خلال تحديد خياراته وحساباته، خاصة عندما يكون القرار على علاقة مباشرة بسياسة إقليمية تقلق الكثيرين وتخيفهم.

ميتشل في تركيا، وكلينتون أيضا، فالموضوع الإيراني هو في طليعة اهتمامات أميركا، وهي لن تتردد هنا في اعتماد السلاح التركي الذي لوح به صانع السياسة الخارجية التركية البروفسور أحمد داوود أوغلو حول مخاطر تساقط أحجار الدومينو بالاتجاه السلبي والانعكاسات الإقليمية والدولية بالغة الخطورة التي قد تتسبب بها.