استيقظوا أيها الأرقام

TT

قال وزير العدل السوداني في كلامه عن طرد منظمات الإغاثة الدولية: «يتحدثون عن إعانة ملايين وعدد سكان دارفور كلها 5 ملايين، ويتحدثون عن صرف ملياري دولار لكنهم يصرفون فقط 100 مليون ويسترزقون بالباقي». كان يقال في الماضي، للدقة التي هي شغف للعرب، ليس صحيحاً أن ضحايا الحرب الأهلية في الجزائر 250 ألفا. إنهم 225 ألفا. رجاء لا تبالغوا في التحدث عن أعداد الضحايا: «ملايين» قد تعني عشرين مليونا، في حين أن العدد الحقيقي لا يتجاوز خمسة ملايين. هنيئاً لك هذه الحصافة يا السيد الوزير. لكن لأغراض الدقة البشرية أيضا، فإن عدد سكان لبنان لا يصل إلى خمسة ملايين. ولا عدد سكان بلدان الخليج. ولا عدد رجال النخبة في أميركا. المسألة في حسابات الأمم هي ألا يجوع فرد واحد وألا يقتل فرد واحد وألا يعتدى على مواطن دولة في أي دولة أخرى على الأرض. وماذا إذا كانت فقط مائة مليون دولار تصل إلى جائعي دارفور؟ أليس أفضل من تركهم جميعا لمجاعاتهم؟ ألم يمل حكام أفريقيا من صور الملايين الذين يموتون كل عقد بلا لقمة وبلا شربة ماء ولا يعرفون في حياتهم القصيرة سوى الذباب والانتفاخ بالجوع؟

عرضت «العربية» يوم الخميس الماضي ريبورتاجاً من اليمن عن ارتفاع حوادث الانتحار بسبب الفقر في جوار عدن بنسبة 55%. وقبلها عرضت «الجزيرة» مشاهد مؤلمة عن قيعان الفقر وأكواخ الصفيح. ويصور الروائي اليمني علي المقري في «طعم أسود رائحة سوداء» أفظع وأبشع أنواع الفقر التي تعاني منها الطبقة المعروفة «بالاخدام».

وبرغم كل هذا الفقر والأمية والتخلف والبطالة والقهر، على مدى العالم العربي، لا نسمع السياسيين العرب يتحدثون إلا في السياسة ولا يخوضون معركة إلا المعارك السياسية ولا يقيمون اجتماعاً أو مهرجاناً إلا سياسياً ولا يطعمون الناس إلا مايكروفونات ولا يرفعون صوتاً إلا من أجل أنفسهم. وإذا جاءوا لا يذهبون، ويأتون ومعهم ورق ودفاتر وكتب تكتب بأسمائهم، ولا يرتفع اسمهم على مستشفى أو مدرسة أو مصح أو مأوى.

يا أخي لسنا في حاجة إلى علك. نحن في حاجة إلى لقمة. إلى بيوت بغير صفيح. إلى مياه. إلى حمامات عامة. إلى أدنى ما يتمتع به البشر الآخرون. لسنا في حاجة لأن نحارب العالم بالعصي والنبابيت. في حاجة إلى محاربة الفقر والقهر والظلم وغلاظة القلوب. في حاجة إلى أن تكون كل نفس بشرية رقماً لا أن يكون خمسة ملايين رقماً ساخراً.