الجوع والفكاهة

TT

روى أحدهم نكتة ليبية. قال السامع: «حقا؟ هل بدأ الليبيون ينكتون؟ لم نعرف عنهم ذلك. لا بد أن الجوع اخذ ينشب أظفاره فيهم فبدأوا ينكتون».

الحكاية تشير إلى هذه الرابطة القوية بين الجوع والفقر وبين الفكاهة والسخرية العربية. وأؤكد على كلمة العربية، لأن هذه الظاهرة ارتبطت بنكاتنا وفكاهتنا بصورة خاصة.

الجزيرة العربية، الموطن الأساسي لكل العرب، منطقة فقيرة تاريخيا وشحيحة الغذاء والماء، وبالتالي فكثيرا ما تعرض سكانها للجوع والمجاعات. اضطرتهم هذه المجاعات إلى الرحيل من ديارهم واللجوء إلى منطقة الهلال الخصيب. هذا ما فعله البابليون والعموريون والآشوريون والفينيقيون وسواهم. وكذلك أرغمتهم على اللجوء للسلب والنهب والتحايل. اضطرتهم أيضا للحد من التكاثر والسيطرة على النسل بوأد البنات في الجاهلية والقتل غسلا للعار عند بعض القبائل والتقاتل في كل العصور. الكثير مما يجري في أيامنا هذه كالفساد والتقاتل يعود لذلك. ونشأت منه كل ظواهر الاستجداء والتطفل والاستضافة وعيش الشعراء والأدباء على المديح، والنزول ضيفا ثقيلا على الآخرين، ومن الناحية الأخرى فضائل الكرم والضيافة. كلها تمتد جذورها لمشكلة الجوع.

ومن هذا التراث الاجتماعي والاقتصادي، نشأ على المستوى الأدبي الكثير من الحكايات والطرائف والأشعار. يكفينا منها هنا أن نشير إلى مقامات الحريري والهمذاني وقصائد المتنبي الاستجدائية. وبعين الوقت وفي هذا الإطار، ردد الظرفاء الكثير من النكات والقفشات والحكايات الفكاهية، بحيث شاع بيننا ما يمكن أن نسميه بالجوعيات: حكايات الظريف الذي يسخر ذكاءه وظرفه في اقتحام الولائم والمأكلات ويلتهم أقصى ما يستطيع من اللحم والثريد. نلتقي بالكثير من هؤلاء القوم في حياتنا الاعتيادية. يمكنني أن أقول إن الكثير ممن ألتقي بهم في المؤتمرات الفكرية والسياسية ينتمون في الحقيقة إلى مثل هذه الطائفة.

أعرف مؤرخا شهيرا اعتاد أن يأكل في الولائم ما فوق طاقته. سألته عن ذلك فقال بصراحة، هذا أكل سيكفيني لعدة أيام لا آكل شيئا خلالها! وهو بالطبع ما تفعله الجمال. (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع).

سألني يوما أحد الإنجليز عن روح الفكاهة عندنا وأن أعطيه نماذج من نكاتنا. وعندما شرحت له أن الكثير منها يعود تاريخيا إلى فكرة الحصول على مأكلة بالمجان، قال لي إن هذا النوع من الفكاهة عندهم يرتبط اعتياديا بالثعلب الذي ينجح في اصطياد دجاجة أو القط الذي يحصل على لحمة، وهلمجرا.

الحقيقة أنني لم أسمع قط عن نكتة أو ملحة إنجليزية تتعلق بحصول إنسان على أكلة. البون بين الحضارتين يعكس حالة الوفر الذي يعيشه الأوربيون والفاقة التي عاشها أجدادنا، وتمخضت عن هذا التراث، فكاهة الجوعيات. هذا موضوع جدير بالدرس والتنقيب والتحليل، وهو ما سأفعله إن شاء الله في الحلقات القادمة من هذه الزاوية.

www.kishtainiat.blogspot.com