السودان لا البشير

TT

قرار اعتقال الرئيس السوداني قوبل في العالم غير الغربي بالريبة والازدراء ليس حبا في البشير ولا دفاعا عنه فكثيرون لا يعجبهم البشير ولا طريقة حكمه ولا يرونه غير نسخة كربونية للتخلف السياسي الشائع في العالم لعربي، ويرون أن الرئيس البشير مع جبهة الإنقاذ الإسلامية قدما نموذجا مشوها لا يشرف لأسلوب الإسلاميين في الحكم، وبالتأكيد فإن مآسي دارفور التي تنضوي تحت حكم البشير تحوي فصولا قاسية من الظلم والجبروت علاوة على ما يعانيه الإقليم أصلا من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، كل هذا صحيح ولكن الصحيح أيضا أن معظم العقلاء في عالمنا العربي يستقبح ويستهجن قرار المحكمة الجنائية الدولية الأخير لاعتقال البشير ليس حبا في الرئيس السوداني ولكن شفقة على السودان، مثلما كانت شفقتهم على العراق وليس على صدام قبيل الاحتلال الأمريكي الآثم للعراق مع الفارق بين البلدين والزعيمين والتجربتين.

وحتى لو ثبت أن الرئيس عمر البشير مسؤول مباشرة أو غير مباشرة عن جرائم دارفور أو تأكدت براءته فهذه ليست القضية حتى لا نكون سذجا فنطير مع أول نسمة مكر غربية تهب، القضية يا سادة أن الاستعمار الغربي خرج القرن الماضي من باب الدول الإسلامية بعد تدميرها واستهلاك ثرواتها من خلال الاحتلال الصريح، وعاد من نافذة الاحتلال والتدمير عبر التحكم من بعد ومن خلال الأطر القانونية التي وضعها لنفسه وفي خدمته مثل المحكمة الجنائية الدولية بدعوى حماية الإنسان ونشر العدل بالمقاييس الغربية وليس بمقاييس العدل العالمية، ولن أقف كثيرا على ما عقده غيري من مقارنة بين الجرائم التي ارتكبها أولمرت وعصابته في غزة، وقبله وأشنع منه بوش الذي احتل العراق وسحقه ودمره بدعوى أسلحة الدمار الشامل، فلم يفكر الغرب أن يقدم هذا ولا ذاك لأي محكمة محلية أو دولية، ولهذا قالت صحيفة الجارديان البريطانية إن العدالة الدولية تقتضي أن ما يطبق على رئيس السودان يجب أن يطبق على رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، فالعدالة الدولية ليست خاصة أو مصممة للدول الصغيرة.

ردود الفعل العالمية الباهتة تجاه مسرحية اعتقال البشير مفهومة ومنطقية لأن مقاييس العدل الغربية ظالمة ولأن عيون العالم تسبر وتقارن وترصد، من هذه الأحداث الكثيرة المرصودة التي تفضح ازدواجية معايير العدل الغربية المقارنة بين جريمتين الضحايا في إحداهما غربيون وضحايا الثانية مسلمون، كلا الحدثين اعترف مرتكبوهما بالجرم، وكلاهما قدم تعويضا، الحدث الأول قصف أمريكي لحفلة زواج أفغانية أحالت قوات «العدل» الأمريكية الأفراح فيها إلى دماء وأتراح، والثانية حادثة سقوط طائرة البانام في لوكربي واتهام ليبيا بها، ولكم أن تعرفوا نتائج مقاييس العدل الغربية التي جعلت من قيمة تعويض الإنسان الغربي أكثر من عشرة ملايين دولار، والآدمي من العالم الثالث «التافه» في العين الغربية لا يكلف أكثر من ألفي دولار!

ومع أني أرجح أن للغرب دورا في تأجيج حدة الصراع في إقليم دارفور لحاجة استعمارية في نفس العالم الغربي، إلا أن هذا لا يعفي الحكومة السودانية من تفريطها في معالجة مشاكل الإقليم وتقديمها هذه الفرصة على طبق من ذهب ليتخذها الطامعون ذريعة في التدخل في شؤون السودان وخلخلته وتفكيكه كما فعلوا مع العراق، قاتل الله «العدالة الغربية» التي أوقعتنا وأوقعت بعض الأنظمة العربية وشعوبها في حرج بالغ اختزله معارض عربي وصف الخيار بين التدخلات الأجنبية أو الاستبداد الداخلي بأنه كالاختيار «بين الكوليرا والطاعون». العاقل من الدول العربية الأخرى من اتعظ بأكل الثور العراقي الأبيض والثور السوداني الموشك على السقوط هذه الأيام، وأعقل العقلاء من الأنظمة العربية من قطع على قوى الشر العالمية الطريق بمصالحة شعوبها فتقضي على الفساد وتشركها في المسؤولية والمحاسبة الحقيقية وتفعل برلماناتها ومؤسسات المجتمع المدني فيها وتمنح هذه الشعوب حرية معقولة وتغدق عليها من خيرات بلادها، هذا هو المصل الواقي من بقايا الميكروبات الاستعمارية.

[email protected]