مخاوف الانسحاب الأمريكي من العراق

TT

خطة الرئيس أوباما التي أعلنها لسحب القوات الأمريكية من العراق كقوات مقاتلة بعد ثمانية عشر شهرا وبشكل نهائي في أواخر 2011، كل طرف اعتبرها كمنجز لجهده، فـ"فصائل المقاومة" اعتبرتها أنها انتصار لها وأنها جاءت بفعل ضرباتها وأنهم أجبروا الأمريكان على الانسحاب من جانب واحد!، والكثرة اعتبرتها نتيجة تغير الإدارة الأمريكية ومجيئها بمنهجية جديدة لجهة التحول في أولوية ساحات الصراع ضد الإرهاب وبسبب من إثقالها بالالتزامات المالية والكلف البشرية التي لا الاقتصاد الأمريكي عاد قادرا على تحملها ولا الرأي العام، باتت تحتل صدارة أولوياته، إلا أن القلة بالطبع هي من انشغل في أن يعتبر أن هذا الالتزام هو التطبيق الفعلي للاتفاقية الأمنية وأن هذه التوقيتات تشي بأن الظروف على الأرض باتت مهيأة ومتنامية باطّراد لملاقاة الاستحقاقات الزمنية.

إلا أن هذا الانسحاب والجداول الزمنية التي أعلنت بنقل المهام إلى القوات العراقية وتقلص الدور القتالي الأمريكي والعودة للثكنات الممهدة للانسحاب الكامل، بقدر ما هي طيبة لجهة استكمال الاستقلال والسيادة فإنها في الوقت نفسه تثير المخاوف، والمفارقة اللافتة وبالقدر نفسه المؤلمة أن المخاوف جلها إن لم يكن جميعها مسؤولا عنها الأطراف العراقية، إذ يبدو لي، وأتمنى أن أكون مخطئا، أن العراق تجاوز مرحلة الاحتضار لكنه سيظل متساكنا مع المرض، غادر وبتثاقل خانة الدول الفاشلة، لكنه لم يصل أو ينضم إلى نادي الدول الناجحة، طوى صفحة الاقتتال الأهلي لكنه لم يستعد لحمته المجتمعية، تراجعت فيه الهويات الفرعية لكن لم ينتظم في هوية المواطنة الدامجة، انخفض منسوب العنف إلا أنه من العسير أن يتحقق فيه الأمن المطلق، لذا عليه أن لا يبالغ بالتطلع إلى احتذاء أمن فضائه الخليجي المستقر بل يتواضع ويقبل بمستوى أمن الجزائر في فترة عنفها، وآخِرًا فإننا نجحنا في تأسيس ديمقراطية واعدة لكننا استعرنا كل أمراضها واستبعدنا مناعاتها.

إن هذه المخاوف مبعثها اختلالات تكاد تصبح بنيوية في القوى العراقية نفسها إذ ليس المهم انسحاب الأمريكان بعد أن تحدد، بل عن أي عراق سينسحبون، وعن قدرة مكوناته على التساوم بعضها مع البعض وفي إيجاد حلول لمعضلاتها وأن يصبح العراقيون هم التطمين لبعضهم وليس الضامن الخارجي، وأن يثقوا بالمؤسسات التي بنوها.

إذ أن الزمن الفاصل إلى بدء الاستحقاقات الزمنية للانسحابات ستعتبر فترة تأهيل واختبار للحكومة العراقية وعلى قدرتها، إذ لن يعود من الممكن تجنب اتخاذ القرارات الصعبة بالتعكز على الأمريكان إذ عليها كما أشار أوباما أن تتخذ خيارات حقيقية على صعيد المترددين والمحجبين عن الانخراط بالوضع السياسي بخلق البيئة الملائمة والموثوقة لذلك، وعبر إثبات قدرة على إدارة العملية الديمقراطية، وأن تترسخ هذه العملية وتحظى بيقينية عالية عند الجميع بما يؤمّن الدفاع عنها ضد محاولات تغييرها في الداخل أو محاولات تدخل أو هيمنة أجنبية عليها من الخارج كبديل عن استمرار الاتكال على الحامي الأمريكي. كذلك هي اختبار لقدرة العراق وقياداته على التخلص من أزماته الكبرى كبؤر الإرهاب والنزاعات الطائفية ومخاطر انكشاف وانهيار اقتصاده والتنازع البيني على ثرواته ومشاكله الثقافية وتلك المتعلقة بديونه وإعادة بِناه التحتية وتوفير خدماته وضمان وحدته السيادية والمجتمعية، وقدرته في التخلص من كل جيوب النفوذ الخارجي والاستقواء الداخلي، حتى أمنه الذي يلوح بأنه الحافز والمشجع للانسحاب الأمريكي يبدو أحيانا هشّا وقابلا للارتداد، بل إن هناك مخاوف بأن المكاسب الأمنية هي مرهونة بتوفر القوة وأن أي غياب لها يرجح من احتمالية تبخر هذه المكاسب.

إلا أنه ربما سيدرك العراقيون أن الطرف الذي طالما لعب دور الضامن بين الأطراف والمانع لتمدد فريق على آخر والماسك بلعبة توازن القوى والحامي للنظام الديمقراطي بينما السياسيون يعبثون ويستمرئون لعبة المناكفة وينخرطون ويبدعون في الإعاقة ويتشرذمون وينشطرون، فإنه آن أوان إخراج العراقيين من الحاضنة وتركهم يعيشون بالجو الطبيعي وأن يقوّوا جهاز مناعتهم بمواجهتهم بأنفسهم لمشكلاتهم وذلك عبر تحديد مواعيد انسحاب صارمة، إلا أن ذلك ليس بالضرورة سيجبر ويحرض الحكومة على ترتيب وضعها الداخلي وعلى التوجه الحقيقي لحل النزاع مع الأطراف الرافضة، كما أنه ليس من المؤكد بأن المتمردين سوف يسعون ويقبلون بدور في العملية الديمقراطية عند إزالة المعيق والمانع لهم وهو وجود القوات الأمريكية، كما أنه لا يمكن المراهنة بأن ذلك سيدفع ويشجع العراقيين على التوحد معا سياسيا ومن ثم تحمل أعبائهم الأمنية.

المشكل الآخر هو في أن تبعث الطمأنينة عند الإنسان العراقي الذي هو خائف من وعلى كل شيء ابتداء من وجوده وانتهاء بوجود بلده مرورا بمستقبله ومصدر عيشه، إذ أن الأمريكان باتوا له هم الخصم والحكم، فرغم الميل الطبيعي في التخلص من الاحتلال وآثاره فإنه، وبمفارقة، اقترن ذلك بخوف من غياب القوة الوحيدة الضامنة التي يمكن التعويل على عدم طائفيتها أو انحيازها القومي، فقد اقترن المحتلّ في الذاكرة اليومية بجلب الأمان وبأنه الحائل دون سيطرة فئة على أخرى، كما اقترن بضمان الحقوق للفئات التي ليس لها ممثلون أقوياء في السلطة.

لذا فإن اختبار الحكومة العراقية الحقيقي هو في أن تكسب عقول وقلوب أبنائها وأن تكون إطارا جامعا لا مفرقا وبأنها سلطة الجميع لا المكون أو الفئة وأن تعمل على إشاعة الأجواء المفضية إلى نسيان ضغائن الماضي والمزيلة لمخاوف المستقبل، وأن تكون هي الملاذ والضامن لكل مواطنيها ولا تجعلهم مضطرين إلى الاحتماء بانتماءاتهم الفرعية من طائفية أو عرقية أو مناطقية والتي لن تقدم لهم الدفاعات إلا على حساب تقويض وتفتيت الهوية الوطنية الجامعة، بذلك فقط تنحسر المخاوف.