لماذا يدعم الغرب صدقية التشدد في الشرق الأوسط؟

TT

فإن كنتَ لا تدري فتلكَ مصيبةٌ

وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظمُ

(الإمام ابن قيّم الجوزيّة)

يراها البعض مسألة توقيت لا غير، بينما يقرأها آخرون على أنها تغيّر في الأسلوب والمقاربة لكنه لا يمسّ الجوهر، في حين تتخوف فئة ثالثة من المراقبين من صفقة تُعقد من فوق رؤوس مَن خُدعوا طويلا بأوصاف كـ«المعتدلون» و«الحكماء» و«الأصدقاء» و«الساعون إلى السلام»..

العودة إلى ماضي علاقات الغرب بالعالم الثالث، ومن ثََم مراجعة شريط تعامل الغرب - أميركيا كان أم أوروبيا - مع العالم العربي وقضاياه.. لا يبعثان كثيرا على الاطمئنان. ثم إن تداول السلطة في الديمقراطيات الغربية يتيح لأي حاكم غسل أيديه ممّا اقترفه سلفه من تجاوزات وبدء علاقات جديدة مع الضحايا الضعفاء الراجين نوبة واحدة من العدالة بدلا من عادة «الكَيل بمكيالين».

خلال الأسبوع الماضي كانت هناك محــطات بارزة.

فقد أصدرت المحكمة الجنائية الخاصة بإقليم دارفور مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير بتهمة المسؤولية عن «جرائم ضد الإنسانية» في الإقليم. وأرسلت واشنطن موفدَين رفيعَين من وزارة الخارجية الأميركية إلى دمشق في إطار سياسة «التواصل الحواري» التي قرّرت إدارة الرئيس باراك أوباما انتهاجها مع «الخصوم الإقليميين» للإدارة الأميركية السابقة. وأعلنت بريطانيا تغيير موقفها من «حزب الله» اللبناني و«بحثها إجراء اتصالات مع الجناح السياسي للحزب» بحجّة أن الحزب «انضم إلى حكومة وحدة وطنية شُكّلت بموجب اتفاق سياسي (اتفاق الدوحة)..!».

ظاهرياً، نحن الآن أمام مقاربة أكثر عقلانية وهدوءاً من تلك التي ألفناها من إدارة جورج بوش «الابن». بل إن ما نسمعه من مسؤولي الإدارة الحالية يوحي باحترام كبير لحلفاء واشنطن الإقليميين التقليديين وأصدقائها. لكن الأمور قد لا تكون دائماً كما هي ظاهرة للعيان.

فيما يخصّ دارفور، أزعم أن شريحة عريضة جداً من العرب والمسلمين لا تعتبر البشير قائداً مثالياً ملهماً، وتؤمن بأن النمط العسكريتاري - الديني غير مناسب لبلد كالسودان في تنوعه الفئوي الهائل. وأزمة دارفور، كما سمعت من دبلوماسي أوروبي غربي ذي إلمام عميق بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي، «أزمة افتعلتها القوى الغربية أساساً» لمصالح معينة، وإن كان هذا لا يعفي الرئيس السوداني من سوء قراءة الأحداث، وبخاصة، إذا كانت هناك حقاً مؤامرة خبيثة تستهدف وحدة السودان وأمنه وسيادته.. نُسجت خيوطها على مستوى رفيع في العواصم الغربية الكبرى.

في أي حال، يجوز القول إن الرئيس البشير انزلق إلى المواجهة. وفي ظل خريطة التحالفات الإقليمية، دخل فعلياً في المحور الإيراني الذي يعتبر نفسه اليوم رافع لواء تحرير أراضي المسلمين واستعادة كرامتهم السليبة. والقوى الغربية أسهمت عن قصد أو من دون قصد بإدخال الخرطوم في هذا المحور. وبالتالي، اليوم، بعد تجاهل المحكمة الدولية كل النداءات الرسمية العربية الداعية إلى التعامل مع الأزمة بمرونة تضمن المخرج اللائق للأطراف المعنية كافة، أعطيَ التشدّد العربي بوجهه «الإسلامي - الإيراني» جرعة جديدة من الصدقيّة قبل أن تجف دماء أبرياء قطاع غزة. وفي سياق «التواصل الحواري» مع دمشق وإيران، تصدر عن واشنطن ولندن وباريس - وتل أبيب أيضاً - إشارات متناقضة. فأحياناً تأتي تحت عنوان «إبعاد دمشق عن طهران» و«كبح نفوذ إيران» في المنطقة، كما قال وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند قبل بضعة أيام. وأحياناً أخرى، تتعامل مع العاصمتين كشريكتين محتملتين لتسوية القضايا الإقليمية الشائكة.. بدليل إعلان هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية خلال زيارتها الأولى لروسيا عن دعوة طهران للمشاركة في مؤتمر أفغانستان. والمثير للاهتمام حقاً، هو التمعّن في تعريف كل من لندن وواشنطن لماهية «حزب الله» اللبناني وموقعه على رقعة الشطرنج الإقليمي.

نعم، يجدر بلندن التي كانت حتى الأمس القريب تصرّ على وصف «حزب الله» بـ«المنظمة الإرهابية» عندما كان حقاً «حركة مقاومة»، توضيح التغيّر المفاجئ والإيجابي في نظرتها إليه بعدما استخدم سلاحه ضد شركائه في الوطن.

فحجم تمثيل الحزب في البرلمان اللبناني لا يزيد اليوم عمّا كان عليه قبل سنتين عندما كان بنظر لندن «منظمة إرهابية». ولم يطرأ منذ يوليو (تموز) 2007 تغيير حكوميّ جذريّ في بريطانيا يفسّر تغيّر السياسة. و«حزب الله» لم يدخل عبر «حكومة الوحدة الوطنية» الحالية الحكم لأول مرة.. بل كان مُمثّلا بعدد أكبر من الوزراء (الوزيران محمد فنيش وطراد حمادة) في الحكومة السابقة.

ما تغيّر حقا، قبل السماح بانتخاب الرئيس ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، هو استخدام «الحزب» قوته العسكرية في شلّ لبنان لأكثر من سنة، ثم استخدامه قوته العسكرية في بيروت والجبل يوم 7 مايو (أيار) الماضي.. وفرضه بالقوة أيضاً التوصّل إلى «اتفاق الدوحة».. الذي تأمل منه بعض أطراف المعارضة اللبنانية والجهات الإقليمية الدّاعمة لها أن يشكل بديلا عن «اتفاقات الطائف».

انفتاح لندن الرسمي على «الجناح السياسي» في «الحزب»، كما سمعنا ونسمع، ليس مكافأة له على «حرب صيف 2006» و«شلّ بيروت عام 2007» و«هجمة بيروت والجبل عام 2008». ولكن تبرير الانفتاح المتأخر تحت ذريعة «إضعاف النفوذ الإيراني» مسألة لا تخلو من خفة الظل.. والاستخفاف بالعقول.

فالواضح أن خياراً من هذا النوع يصعب فصله عن فتح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي صفحة التفاهم مع دمشق فور دخوله قصر الإليزيه. ودفع تل أبيب واشنطن إلى دعوة سورية لمؤتمر آنابوليس، واليوم دعوة واشنطن إيران إلى مؤتمر أفغانستان، والسّعي الغربي عبر معاقبة الرئيس البشير إلى زيادة صدقيّة التشدّد وإحراج - بل «حرق» - أي خطاب عقلاني معتدل في المنطقة. إن «نصائح» خبراء الشرق الأوسط لواشنطن بإهمال الملف الفلسطيني للتركيز على اتفاقات سلام جانبية إقليمية بديلة، تكشف حقائق مقلقة. فما ينصح به هؤلاء - ومعظمهم من أصحاب الأجندات «الليبرالية» الصهيونية - يشكّل الوجه الآخر للكلام الرسمي عن «العصا والجَزّرة». فهم يقدّمون الكثير من الجَزَر لأصدقائهم «المستورين».. تاركين العصا الغليظة بيد إسرائيل لتدمير حلم الدولة الفلسطينية المستقلة.. وأي نهضة انفتاحية عاقلة تُخرج المنطقة من نفق التزمّت والعنف والغوغائية.