رفسنجاني في بغداد.. فليعد العراقيون من دول الجوار

TT

قبل واحد وعشرين عاماً حصل نقاش مع مخضرم في أكبر جهاز مخابرات عن تقييم الوضع الشخصي لقادة الحكم في إيران، وعندما وصل الحديث عن رفسنجاني، وصفه بأنه أقلهم تطرفاً، قلت إذاً لا زلنا في دائرة التطرف. فقد كان رفسنجاني وخامنئي أبرز لاعبين سياسيين ودعائيين على مستوى حملة التعبئة، والتعامل بملف حرب السنوات الثماني، والإشراف على قوات الحرس والجيش. وكان اعتماد الخميني عليهما كبيراً ومميزاً، وكلاهما ذراع له.

خلال تلك الحرب، التي فرضوا (استمرارها)، كان كل ما يقوله رفسنجاني يخضع للمتابعة والتحليل، وكثير مما كان يقول قاد إلى نتائج مفيدة في تعزيز عمليات كشف النوايا، مثلما ظهرت من دلالات ما قاله في النجف، خلال زيارته الأخيرة للعراق، عن التصنيفات الطائفية وخلافات المتشددين.

لم يحاول الشيخ رفسنجاني جدياً العمل على وقف حرب السنوات الثماني، برغم موافقة العراق الفورية على قرار أممي بوقفها، بعد ستة أيام على نشوب العمليات الحربية الواسعة، فيما كشفوا عن بقاء ملف التعويضات مفتوحاً، وهو هدف لن يتخلوا عنه بسهولة، أياً كانت هوية الحاكم في بغداد، إلا إذا أصبح العراق موحدا ومتماسكاً وقوياً. وكلما حقق الإيرانيون نجاحاً في مشروعاتهم ازدادت مطالبهم ودعاواهم.

لا وجود لجانب أخلاقي واحد، يبرر بغضهم لضباط شاركوا في حملة الدفاع عن بلدهم بمهنية، فيما هم كانوا يقودون حملة الحرب، مساندين متحمسين ومنفذين لنهج الخميني وملتزمين بما يقول. وليتهم بدلوا كأس السم بكأس العبرة.

وكان رفسنجاني أظهرهم زهواً عندما احتلت قوات الحرس الثوري شبه جزيرة الفاو، في غفلة من الزمن، وظن بقوله إنها لن تعود إلى أهلها أبداً. فسبحان الله، الذي قلب المعادلات من تلك البقعة.

تحاربت الأمم وتصالحت، والصلح سنة الحياة، لكنها تصالحت على أسس وقف العمليات العدائية، وليس على قاعدة لن نترك بعثياً ولا قائداً عسكرياً يمشي على رجليه في بغداد، كما قال أحد كبار ضباط استخبارات فيلق القدس لشخص عراقي له موقع مميز. ولم يقل رفسنجاني لهؤلاء، انطلاقاً من مفهوم السماحة وثقافة الشرع، إن فعلهم هذا حرام، وهو رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، المعني بمتابعة كل ما يدور. فهجرت الملايين ديارها.

أما في المجال النووي، فيكتفي بخطبه المتكررة بتأكيد حق إيران في امتلاك الطاقة النووية، نافياً التوجه إلى تصنيع سلاح نووي؛ لأنه مخالف لتعاليم الإسلام، وهو بذلك يسهم في عملية خداع استراتيجي، بعلم أو من دونه، فيما يفترض عدم مشاركة شخص يحتل موقعاً قيادياً كبيرا في نشاط كهذا؛ لأن الخداع يتطلب أحياناً التزييف وقول غير الحقيقة. وينبغي أن يكون السلاح النووي موضع قلق عراقي، طالما لم يجر التوصل إلى علاقات متوازنة.

مشاكل القادة الحاكمين في طهران تكمن في كثير من المؤشرات، ولم يحاول أحد منهم، أن يوقف التجاوزات والتدخلات وتخفيف الاحتقان، ولو بكلمة طيبة واضحة غير دعائية، والشيخ رفسنجاني قادر بحكم موقعه وإرثه ومنزلته الدينية، على إحداث ثورة من المتغيرات، من خلال الوقوف في وجه التيار، ولو أقدم على التغيير لوجد ملايين الإيرانيين يصفقون له، وهو ليس في حاجة لحصانة، وستتزاوج درجته الدينية وخبرته السياسية وقدرته المالية، مع تعاطف عربي وغربي، وعندئذ يمكن القول إن إيران قد تغيرت أو إنها على طريق التغيير. لكن هذا لن يحصل، إلا إذا شعروا برؤية عربية وغربية واضحة وموقف عراقي قوي.

وخلال زيارة رفسنجاني، حصلت متضادات عدة، أبرزها عدم تحقيق لقاء بينه وبينه نائب رئيس الجمهورية السيد طارق الهاشمي، وصدور بيان شجب من الحزب الإسلامي الذي يقوده، ومهما قيل عن المسببات وسحب البيان، فإن الموقف قد سجل كمؤشر خلافات واضحة. أما الردود الشعبية فكانت محدودة وشبه فردية أو غير منظمة.

وحيثما كانت المواقف، السلبية والإيجابية، فإن طي صفحة الماضي يبقى منطقياً وضرورياً، ولكي يستعيد العراق عافيته ويعاد بناؤه على أسس قوة العدل، لا بد من تبني سلسلة خطوات أساسية، من بينها:

أن يجري التحسب للنوايا والمطالب الإيرانية، فمثلما للإيرانيين مطالب، للعراق مطالب مقابلة، خصوصاً ما يتعلق بالكف عن التدخل في شؤونه، وكذلك مسألة تحديد الحدود وتثبيتها، وهنالك موضوع (139) طائرة عراقية أودعت عندهم خلال حرب الخليج الثانية، وأي موضوع آخر لا يزال معلقاً، ولا بد من تسوية كل القضايا بطريقة هادئة من دون أن تترتب على العراق التزامات مالية.

من الضروري مبادرة العراقيين الموجودين في دول الجوار بالعودة إلى العراق بكثافة ومن دون ضياع للوقت، وممارسة الحياة العادية، والسياسية، بصورة أصولية وعلنية وقانونية. ويمكن من خلال عودتهم تعزيز سير الانتخابات المقبلة، وتفويت الفرصة على الذين دفعوهم لمغادرة العراق، وعندئذ تحبط المشاريع المعدة من خارج الحدود. وخطوة بهذا الحجم تتطلب تفاعلا إيجابياً وخطوات متناغمة من قبل الحكومة العراقية.

ولا بد أن تعزز السلطات العراقية، بعد أن هُزمت القاعدة وفرق الموت، من إجراءات الترابط في كافة أنحاء البلاد، واستكمال إفشال مشاريع التشرذم والتفكك والتقسيم، وفضح كل عابث بأمن البلاد ووحدتها ومستقبلها، من دون مجاملة، ويفترض أن تكون مرحلة السكوت قد انتهت. وحتى المسميات ينبغي أن تكون مطابقة لمتطلبات التماسك والوحدة، ولا مركزية المحافظات يمكن أن تأخذ طابعاً إدارياً خاضعاً لإشراف المركز، وليس أن يرى مجلس المحافظة في كيانه حكومة، فتسميات الحكومات المحلية تؤدي إلى إضعاف سلطة المركز.

ومن الضروري البدء في بناء سلطة الدولة الخارجية، لتكون معبرة عن وحدة البلد وتماسكه، وتحدد صلاحيات التعاطي مع القنصليات.

الاستفادة أقصى ما يمكن من قادة الجيش السابقين في إعادة بناء التشكيلات، التي لا بد أن تكون الخدمة فيها إلزامية ليكون التمثيل عادلا، وأن زمن الانقلابات قد انتهى. وعندما تكون السلطات ديمقراطية وعادلة تنتهي فرص التآمر، وتفقد المحاصصة الطائفية والعرقية مبرراتها، وليكن الحاكم من تأتي به الانتخابات والوزير من يمتلك المؤهلات.

عندئذ تعود للعراق عافيته.

[email protected]