العراقيون أكثر الشعوب تحملا

TT

صدقت منظمة الصحة العالمية على تقرير لوزارة الصحة العراقية يقول إن العراقيين استطاعوا استيعاب أزمات السنوات الخمس الدامية، ووصفتهم المنظمة الدولية بأنهم أكثر الشعوب في العالم تحملا للفواجع وأكثرها قدرة على تجاوزها. وكان المسح الذي أجرته الوزارة شمل عينة من المواطنين بلغت أكثر من أربعة آلاف شخص وجدت أن أكثرهم تجاوز ما مر به، أو ما شاهده، إلى عالم جديد. لا شك أن العراقيين عاشوا سنوات طويلة لأكثر من ثلاثين عاما كانت أيامها ولياليها من رعب، وعندما مروا بسنوات العنف التالية للغزو كانوا مع المعاناة يحملون أيضا أملا في داخلهم بنهاية الكابوس الطويل. واليوم نحن نرى استقرارا لا بأس به في دولة كان مستقبلها قبل أشهر على كف عفريت. كانت في العقل والمجالس والإعلام مخاوف من تقسيم البلاد إلى ولايات كبيرة من المؤكد أنها ستتجه إلى التقاتل في حروب سرمدية لا تنتهي، وكانت فيها مخاوف من تفتيت البلاد إلى أصغر من ذلك، إلى أقاليم ومحافظات ومدن متقاتلة، في سيناريو أسوأ من سابقه. وكان أمام العراقيين تصورات أخرى تقول بما هو أخطر، حرب أهلية طائفية وعرقية ومناطقية. تجددت النبوءات بصوملة ولبننة وأفغنة العراق، إلى درجة صارت شبه مؤكدة عكستها كتابات وبيانات وأقوال كثيرين من المثقفين والعرب والأجانب، قالوها إما عن خوف أو تخويف.

لهذا ليس غريبا أن يتنهد كل العراقيين لنهاية بعد مخاض دام يستحق التفاؤل والاحتفاء أيضا. وهذا الشعور طبعا لا يلغي مأساة ثلاثة ملايين عراقي بين نازحين ومهجرين الذين لا يستطيع أحد أن يقول إنهم يشعرون إلا بالحسرة والألم في الغربة التي لا يعرف أحد متى وكيف ستنتهي. المهجرون لا بد أنهم أكثر من يرى في استقرار العراق بارقة أمل لنهاية كابوسهم. إعادة الملايين الثلاثة، والبعض يقدر عددهم بخمسة ملايين عراقي هربوا أو أجبروا على ترك منازلهم وأحيائهم وبلدهم، إعادتهم مسؤولية دولية، لا تخص فقط النظام العراقي صاحب المسؤولية المباشرة، بما تعنيه الكلمة من تثبيت حقهم في العودة وكامل المواطنة. وقد حققت الانتخابات المحلية الأخيرة نجاحا في التأكيد على أهمية المشروع العراقي الوطني لا المشاريع المذهبية والمناطقية التي سادت في سنوات الفوضى. بإعادة معظم النازحين سيكون العقد العراقي قد اكتمل وتأكد بناء العراق الجديد، حتى بالنسبة للذين كانوا يرفضونه أو يشككون في إمكانيته. أما في حال تجاهلهم، أو التباطؤ في إعادتهم، أو رفض منحهم حق المشاركة السياسية على اعتبار أنهم حرموا من التصويت في الانتخابات المحلية، فإن هذا الرقم الهائل من العراقيين سيشكل أزمة للحكم لا يمكن أن يهرب منها.

ولعل تماسك العراقيين وقدرتهم على الصمود النفسي في سنوات الفوضى يشرح لماذا لم يسقط العراق، وكيف استمرت البلاد مترابطة رغم أنهار الدم وسحب دخان التفجيرات. من يرى صور النشاط الفردي في العاصمة يعجب بالروح الإيجابية عند البغداديين، والذي تابع الحيوية الانتخابية في غرب العراق أيضا يعجب كيف أن المنطقة التي هيمنت عليها القاعدة وعاثت فيها بالذبح كانت أكثر المناطق حماسا للمشاركة السياسية. أما في الجنوب فإن التنافس الحاد بين المرشحين كان حدثا محل اهتمام العالم لا العراق فقط، وجاءت نتيجته مثيرة وإيجابية لتؤكد على أن أربع سنوات صمود مغسولة بالدم أنجبت عقلية تميز وتختار لنفسها بلا إملاءات من الداخل أو الخارج.

[email protected]