يأكلون الميتة والجيف

TT

جاء في صحيح البخاري ما رواه عن جابر بن عبد الله، قال: «خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا حتى كان الرجل منا يأكل في كل يوم تمرة. قال رجل: يا أبا عبد الله، وأين كانت تقع التمرة من الرجل؟ قال لقد وجدنا فقدها حين فقدناها».

ويروي ابن الجوزي فيقول: «في سنة 343 ذبح الأطفال وأكلت الجيف.. وفي سنة 448 عم القحط فأكلت الميتة.. وفي سنة 462 اشتد الجوع والوباء بمصر حتى أكل الناس بعضهم بعضا.. وخرج وزير صاحب مصر فنزل عن بغلته فأخذها ثلاثة فأكلوها فصلبوا. فأصبح الناس لا يرون غير عظامهم تحت خشبهم». الحقيقة أن ما رواه ابن الجوزي جزء يسير لسلسلة طويلة من المجاعات التي اجتاحت العالم العربي ابتداء من عهد أبي بكر الصديق. ويذكر فليب حتي أن الجزيرة العربية عانت بعد وفاة الرسول من زيادة السكان. ويرى المؤرخون الاقتصاديون، كما ذكر فرانسيس غابريلي في «محمد وفتوحات الإسلام» أن السكان تكاثروا بعد الإسلام بنسبة 10 ـ 15 في المائة في القرن ورافق ذلك تضخم نقدي وارتفاع في الأسعار.

ولا أدري إن كان ذلك يعود للتوقف عن وأد البنات واستتباب الأمن والسلام وتنظيم الزواج الذي جاءت به الشريعة أو الامتناع عن أكل الخنازير والحمير، أو كل هذه العوامل مجتمعة. ولكنني أعتقد أن تلك المجاعة وزيادة السكان كانتا من العوامل التي دفعت بالمسلمين إلى الخروج من الجزيرة وفتح العالم، وكأنه سبحانه وتعالى سخر تلك المجاعة ليتم بها نشر الإسلام في الدنيا الواسعة. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.

ورد ذكر الجوع والتحذير منه عدة مرات في القرآن الكريم. وفيه جاء ذكر الأكل 110 مرات وذكر الطعام ومشتقاته 48 مرة. تشير الملائكة على مريم العذراء أن تهز النخلة لتساقط عليها رطبا جنيا، وتقول لها «كلي واشربي وقري عينا». الأكل نعمة واعتدنا على تسمية الخبز والطعام بالنعمة ونعمة الله. ويحذر الله تعالى آدم من إبليس لئلا يخرجهما من الجنة فيشقى وذكره بنعمة حياته في الجنة حيث «لا تجوع فيها ولا تعرى».

وخصص أبو حيان التوحيدي عدة صفحات من كتابه «الإمتاع والمؤانسة» لذكر الأكل والشبع، وروى عن يزيد بن ربيع أن الماء والملح هما طعام الأعراب. وقيل لأعرابي ما حد الشبع، فقال: «أما عندكم يا حاضرة فلا أدري. وأما عندنا في البادية فما وجدت العين وامتدت إليه اليد ودار عليه الضرس وأساغه الحلق وانتفخ به البطن واستدارت عليه الحوايا واستغاثت منه المعدة وتقوست منه الأضلاع والتوت عليه المصارين وخيف منه الموت»!

من هذه الخلفية الاقتصادية والاجتماعية ورثنا كل هذه الثروة من ظرافات الجوعيات ونكات البخلاء والثقلاء والطفيليين. الأدب العربي مليء بحكايات التخمة والذين تراهنوا على الأكل فأكلوا حتى أشرفوا على الموت.

www.kishtainiat.blogspot.com