المؤسسة الرئاسية بين الاعتقال واحتكار السلطة

TT

محنة البشير حالة رئاسية عربية بالغة التعقيد. متاهة تشتبك فيها نظريات الدولة السيادية والدولة العالمية، بين حق الأولى في الدفاع عن النفس، وعن الحق المطلق في الحكم، والتصرف بحياة الناس، وحق الثانية في التدخل باسم حقوق الإنسان، أو باسم الديمقراطية المزعومة.

حتى البشير نفسه. كعقل عسكري شديد التبسيط، غير قادر على إدراك عمق التحولات المتسارعة التي أوقع نفسه في شراكها، عندما أهمل معالجة أزمة دارفور، بلا مبالاة لا يحسده عليها أي رئيس عربي أو غير عربي.

هذا العسكري جاء إلى الحكم على الموجة الإسلامية الترابية. كان شيخه الثعلب حسن الترابي أول صانع لانقلاب ديني يخترق به مؤسسة عسكرية تقليدية ظلت حتى عام 1989 مستعصية على شيوخ الإسلام السياسي. كان الإسلام السوداني «المودرن» أكثر ذكاء وجرأة من الإسلام التقليدي. إسلام المهدية والختمية. استلف الإسلام «المودرن» المال العربي لأسلحة الجنوب المسيحي والوثني، فإذا به يصنع انقلابا عسكريا.

اكتشف البشير مع الوقت أن شيخه الديني مغامر أوقع السودان في مشاكل لا تنتهي. عندما وضع الإسلام السياسي السنّي على طريق إسلام الخميني الشيعي. بات السودان مأوى للإرهاب (استضاف بن لادن وكارلوس)، بل متدخلا مهددا بـ«تكينس» الأنظمة «العلمانية» في شمال إفريقيا، وصولا إلي محاولة اغتيال الرئيس مبارك خلال زيارته الأثيوبية.

البشير، كمرافق عسكري لشيخه الترابي، ارتكب بدوره أخطاء كبيرة: أعدم رفاقه ورؤساءه من كبار الضباط. واصل حرب نميري في الجنوب مستنزفا موارد السودان الطبيعية والبشرية. ثم متحالفا مع الأنظمة الشمولية العربية، بدءا بـ«فارس العرب» صدام، وانتهاء بالتحالف مع أسد سورية، وبالرهان على القذافي.

نميري يلخص العقلية التواكلية للمؤسسة الرئاسية العربية. في رده على الاحتجاجات الدولية علي عدم اتخاذه الاحتياطات اللازمة لإطعام شعبه، كان يقول: «لقد تَعوّد السودان أن يفقد نصف شعبه في المجاعة».عسكري يقلِّد عسكريا. عالج البشير انفجار دارفور. بلا مبالاة «نميرية». لم يدرك البشير سلفا أن الحرب الأهلية مجرد منخفض جوي يجتذب رياح تدخّل الجيران وعيون المراقبين الدوليين الكبار.

أظن أن أكبر مخالفة ارتكبها البشير هي انتهاكه للمبدأ الديني الذي جاء على هودجه إلى الحكم. الإسلام دين أمميّ. ساوى الإسلام نظريا بين العرب والعجم. انحياز نظام البشير ذي الغلالة الإسلامية الرقيقة (بعد تخلصه من شيخه الترابي) إلى الجنجويد في شمال دارفور ضد الأفارقة المسلمين في جنوبه كان انتهاكا مروِّعا لإنسانية الإسلام.

دارفور ليست إشكالية دينية فحسب. إنها أيضا إشكالية بيئية. زحف التصحر المتسارع أغرى الرعاة الجنجويد الكسالى بغزو إخوتهم الدارفوريين الأفارقة في زراعاتهم البدائية التي تكاد تطعمهم. عندما احتج الجنوبيون فاجأهم الجنجويد بعادتهم التقليدية في القرون الخوالي: الغزو المسلح بكل ما يرافقه من انتهاكات للكرامة الإنسانية.

ترك نظام البشير فقاعة الحرب الدارفورية لتنفجر براكين وزلازل. مندلقة بلاجئيها عبر الحدود، ثم لتغدو مبالغاتها في الصحافة الغربية المنحازة ضد العرب، مأساةً «يرتكبها العرب الجنجويد ضد الأفارقة».

كان ظن العسكري البشير، في قصور فهمه لواجب الدولة الحديثة. إن دارفور حالة معتمة لا تصل إليها الصحافة. لكن يهود الصحافة الأمريكية فرزوا فريقا من كتاب الصحافة خصيصا لدارفور، إشغالا للعالم بمأساة الدارفوريين، عن انتهاك إسرائيل لحقوق الفلسطينيين.

وهكذا، في ظروف هذه التحولات والتناقضات، وجد البشير نفسه، في غفلته وإهماله ولامبالاته. مطلوبا للعدالة الدولية بتهمة ارتكاب «جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب». لم ينفع علاج الأزمة بالغضب العارم، كوضع الترابي في السجن بعدما طالب البشير بتسليم نفسه لمحكمة الجنايات الدولية. لم تنفع البشير رقصة الحرب بالعصا. أو «كشكشة» طفل دارفوري أمام عدسات التلفزة، أو تسيير تظاهرات الاحتجاج الصارخة. بل بات مهدَّدا بتهمة «الإبادة» عندما طرد منظمات الإغاثة التي تطعم أكثر من مليون لاجئ. على الرغم من اقتناعي برأيه، بأن هذه المنظمات هي التي قدمت مستمسكات غير دقيقة عنه، إلى عدوه أوبانغو مدعي عام المحكمة. في لمحة تاريخية، أحب أن أشير هنا إلى رسوخ حق السيادة (الذي يتعلق به البشير) منذ معاهدة أوغسبرغ (1555) التي منحت رأس الدولة حق التصرف المطلق «بعباده» من مواطنيه، حتى في اختيار ديانة لهم! هذا المبدأ تآكل سلبا وإيجابا. سلبا في التدخل الاستعماري لنهب العالم الثالث، وإيجابا في تراجع مبدأ السيادة أمام مبدأ التدخل الدولي، بنشوء الأمم المتحدة كحارسة لحقوق الإنسان، وشيوع الإعلام الإلكتروني الذي أثار فضول العالم للتدخل ضد ما يجري داخل الدولة المستقلة من انتهاكات.

بات دس الأنف الدولي في شؤون الدولة السيادية مهدِّدا للمؤسسة الرئاسية في احتكارها السلطة. أصحبت المؤسسة الرئاسية العربية في مرمى المحاسبة والاتهام (عراق صدام. سورية. موريتانيا. السودان) نعم، هناك تحيز دولي صارخ تمارسه دول كبرى وصغرى ضد العرب حكاما ومحكومين. لكن الأمانة مع الحقيقة تفرض إبداء رأي موضوعي في التورُّم السرطاني الذي أصيبت به المؤسسة الرئاسية العربية، بحيث بات يضعها حائرة، وربما خائفة على احتكارها المطلق للسلطة، من الاعتقال بتهمة سوء استخدامها.

الأسباب كثيرة. المخالفة المستمرة للقانون والإقامة الطويلة في بيت السلطة، يجعلان من الصعب على الرئيس المطلق التخلي عن مؤسسته الرئاسية. الرئيس في الدولة الديمقراطية يذهب إلى بيته آمنا مطمئنا، بعد انتهاء ولايته الدستورية، ليموت متقاعدا في فراشه. الرئيس العربي يذهب بالانقلاب، أو الاغتيال، إن مات فهو يورِّث ابنه باستنساخه شبيها لأبيه. أسد استنسخ أسدا في سورية. الكارثة أعظم في العراق، لو أن صدام ورَّث ابنيه الأسوأ منه.

التمسك بالسلطة والتجديد المستمر للرئيس يجعلان البديل صعبا مستحيلا. البشير عشرون سنة في احتكار الرئاسة. القذافي أربعون سنة. مؤسسته الرئاسية تحولت من ثورية إلى عائلية. حتى الخرف لم يمنع بورقيبة من الاستمرار 31 سنة. ظل الأسد قابضا على مقعد الرئاسة، في الصورة التليفزيونية، 30سنة.

الكلام عن محنة البشير ظلم له، إذا لم يتطرق الحديث الموضوعي إلى محنة الرئاسة العربية. هذه المحنة تضعها اليوم أمام تحديات ربما أكبر من تحدي الهجمة الإيرانية والهَبَّة الدينية المتسيسة. محنة مواجهة عالم أكثر فضولا ورغبة في التدخل، بل فرضه بقوة المشروعية الدولية، عالم يرى ويتحقق من ارتكابات ضد حقوق الإنسان تمارسها مؤسسة رئاسية ضاقت دائرة القرار فيها، وغابت عنها القدرة علي تلمس التحولات الدولية.

ما الحل للفكاك من أسر النفس للنفس؟ ربما الحل في التحول إلى النظام النيابي، أو حتى إلى نظام رئاسي دستوري، خاضع للقانون في دولة حنون راعية لكرامة إنسانها المواطن.