النقطة والنقطتان.. والنقاط الكثيرة

TT

من حق الأستاذ سمير عطا الله علينا أن ينبه إلى ما نبه إليه في مقاله من الإفراط في استخدام النقاط المتوالية من دون داعٍ إلى استخدامها على هذا النحو الذي تستخدم به، ومن المؤسف أن هذا الإفراط لم يقف عند حدٍّ، حتى إن بعض الكتاب وصفوا كتابة أكثر من واحد من كتابنا بأنها حافلة بالنقط، ووصف غيره بأن النقط تحتل ربع مساحة مقاله، وربما كان الأمر في حاجة إلى إطلالة تذهب إلى الماضي.

وأبدأ فأقول إن علامات الترقيم ومنها النقطة تمثل أسلوبا من أساليب التعبير اللغوي، وقد تصل المهارة في استخدامها الحد الذي يجعلها تقوم بمفردها مقام جملة كاملة. ونحن نعرف أن ضرورات العناوين تقتضي اللجوء الذكي إلى استخدام علامات الترقيم، ولنا أن نتصور ما يؤدي إليه حال عنوان اعتمد على وجود علامة التعجب فيه إذا ما حدث خطأ مطبعي ضيع علامة التعجب منه.

ليس هذا فحسب، بل إن وجود النقطة في نهاية الجملة كفيل كما نعرف بالتصريح بأن المعنى قد تم، فإذا ما غابت هذه النقطة سهوًا وكانت الجملة التالية جملة فعلية فإن السياق يختل، وقد تتحول الجملة الجديدة على سبيل المثال إلى صلة للموصول من حيث لا يريد هذا الموصول أن يكون موصولا.

وربما يقودنا هذا إلى التفرقة بين فهمين مختلفين و(ربما متناقضين) لدلالات علامات الترقيم، الفهم الأول يعلي من قيمة وجودها ومن ضرورة استخدامها الاستخدام الأمثل الذي يجعلها جزءا لا يتجزأ من المعنى ومن السياق ومن دلالة السياق ويرى الخطأ فيها خطأ لغويًا ومعنويًا لا مطبعيًا ولا إملائيًا. والفهم الثاني يتصور علامات الترقيم حلية أو زينة أو إكسسوارا، حتى إنه يصور لك المعنى بمثل طريف يقول ما جدوى علامة الاستفهام في نهاية الجملة السائلة: هل المعنى مفهوم.. يريد أنصار هذا الفهم أن يقولوا إن أداة الاستفهام قد قامت بالمعنى وزيادة ولم تعد بك بحاجة إلى أن تضع علامة استفهام، فإذا أنت أردت أن تضعها فالأولى بك أن تحذف أداة الاستفهام من بداية الجملة!

وقد عرف الترقيم في اللغة الإنجليزية منذ عام 1539 وكان يعني استعمال اللفظ والفواصل وما إليها في الكتابة توضيحًا للمعنى.

أما علامات الترقيم فوضعت منذ عام 1860 وكان أسلافنا من اللغويين والمربين العرب حريصين على الإفادة من هذا النظام ونقله إلى اللغة العربية، وقد نجحوا في تطوير وتطويع نظام الترقيم لخدمة الكتابة العربية، وسرعان ما نجحوا أيضا في أن يطوروا ما كان يعرف بصندوق الطباعة (وهو ما يناظر ما نسميه الآن في أجهزة الحاسبات: لوحة المفاتيح) لتستوعب علامات الترقيم حتى إن ذلك الصندوق لم يعد مقصورًا على الأرقام والحروف العربية في أشكالها المختلفة وإنما أصبح مستوعبًا لعلامات الترقيم أيضا.

وفي هذا الصدد نذكر جهود حفني ناصف القاضي الأديب الأستاذ الذي كان مسؤولا عن تعليم اللغة العربية، كما نذكر جهود شيخ العروبة أحمد زكي باشا، ونذكر جهود اللاحقين الذين ألفوا الكتب الخاصة بعلامات الترقيم ومنهم الشيخ حسين والي، وقد كان بعضهم من الذكاء بحيث قرن تعليم هذه العلامات بتعليم الإملاء، وكان الأستاذ مصطفى عناني أشهر هؤلاء الذين ألفوا كتابًا صغيرًا حاويًا على هيئة ما نعرفه في اللغة الإنجليزية على أنه مانيوال manual وقد سمي كتابه: «قواعد الإملاء وعلامات الترقيم»، و قد عرف هذا الكتاب الذي طبع في حجم كتاب الجيب على أنه «نتيجة الإملاء»، وقد تعارف مدرسو اللغة العربية على هذا الاسم لما فيه من دلالة على أن الكتاب شبيه «بالنتيجة» أو«المفكرة» التي كانت تضم التقويمين الميلادي والهجري، وكانت توضع في جيوب المثقفين ليعرفوا بها الأيام والشهور وتعاقبها ويحددوا تبعًا لها مواعيدهم وبرامج الاحتفالات والاجتماعات.. إلخ، فكأن عناية هذا الجيل من المعلمين بقواعد الإملاء المستخدمة كانت تعادل عنايتهم بمعرفة برامج حياتهم في الفترة القادمة القريبة.

ويذكر للملك فؤاد وعهده أنه أظهر عناية فائقة بنشر مثل هذه القواعد وكان حريصا على أن يطورها بنفسه، وإليه يرجع الفضل في اختراع ما سمي بحروف التاج، وكان يظن أنه باختراعها ينشئ في اللغة العربية ما يكافئ أو يناظر حروف الكابتل في اللغات الأجنبية.. وقد صدرت حروف التاج وقواعد علامات الترقيم بمرسوم وزاري في مارس 1932.

على أن تطور الاعتماد على أجهزة الحاسبات الآلية قد سارع في السنوات الأخيرة من تطوير استخدام علامات الترقيم في غير ما وضعت له وفي غير ما تعارفنا عليه، ولا يزال هذا التطور يتسارع إلى الحد الذي يلزمنا في المجامع اللغوية بأن نتريث في تقنين ما تسارع إليه الشبان والمدونون والمعلوماتيون من استخدام وتوظيف العلامات في غير ما هو معهود منها.

وإني أرى لا داعي لتخطئة هذا الاتجاه المكثر من استخدام النقط، إذا كان الكتاب قد قلدوا بعضهم البعض في الإكثار من وضع هذه النقاط على هذا النحو الذي صارت به هذه النقاط علامة على حاجتهم إلى الانتقال من معنى فرعي إلى معنى آخر من دون ربط المعاني الفرعية ببعضها داخل الفقرة الواحدة، ذلك أن إلزام المجموعات الكبيرة بالصواب بات مستحيلا في ظل شيوع الاستسهال الذي يعمد إلى وسائل تعبيرية أقل جهدًا.

صحيح أن الأولى بنا أن نرشد إلى الحسن وأن نوجه الأنظار إلى أن ما لا يوصف بالحسن فهو أقرب إلى القبيح أو غير الحسن، لكننا لابد في الوقت ذاته من أن نجنب لغتنا وكتابتها أحكامًا قاسية من قبيل الحكم بالصواب والخطأ في زمن أصبح التوجه إلى الخطأ يتخذ من صعوبة الصواب ذريعة شبه مقبولة!

وليس معنى هذا أننا نجيز ما لا تجيزه اللغة المحكمة المعبرة من أساليب التعبير، لكننا في الوقت ذاته لا نريد أن نضيق دائرة الصواب، كيلا تنفتح الأبواب أمام الضجر من قواعد اللغة على الذين يريدون الالتزام بها ويرومون أن يرتقوا بها مقالا بعد آخر.

وإذا كان لنا أن نقنن المواضع التي يمكن أن نجيز استعمال النقط المتوالية فيها، فإننا نشير على سبيل المثال إلى ما يسميه النحاة بالواو الاستئنافية التي تأتي في بدايات الفقرات كقولنا: وفي الحقيقة.. وفي الواقع.

* عضو مجمع اللغة العربية في مصر