السودان.. وخريطة الطريق الخطأ

TT

المحكمة الجنائية الدولية لا تحتكم إلا على مقرها وهيئتها وميزانية تتجاوز بقليل المائة مليون دولار، وبالتالي فإنها تعتمد على الدول الأعضاء الموقعة والمصدقة على اتفـــاقيتـها لتنفيذ أحكامها أو قراراتها، فهي لا تملك شرطة أو سجوناً لتطبق الأحكام بنفسها، وفي الحالة السودانية وهي غير مسبوقة؛ لأنها لأول مرة تتناول رئيس دولة ذات سيادة في مقعد الحكم، لا يوجد ما يشير حتى الآن إلى حماس أي من القوى المؤثرة في العالم، على تقديم أكثر من العبارات الدبلوماسية المنمقة دعما لقرارها، ولكن بدون تقديم العضلات اللازمة للتنفيذ في الوقت الراهن على الأقل، خاصة أنها مشغولة في قضايا لها أولوية الآن مثل الأزمة الاقتصادية العالمية، والملف النووي الإيراني، وأفغانستان وباكستان. كما أن هناك مؤشرات على إمكانية وجود مخرج من هذه الأزمة، إما من خلال استصدار قرار من مجلس الأمن بتأجيل مذكرة الملاحقة، وإما بتسوية ما يرتبط بخطوات من قبل الخرطوم فيما يتعلق بمعالجة مشكلة دارفور.

ومع ذلك، فإنه لا يجب التهوين من مخاطر مذكرة الملاحقة بحق البشير، فهي حتى لو كان هناك قدرة على تنفيذها في الوقت الحاضر تظل كالسيف المسلط القابل للاستخدام في أية لحظة، كما أن قرارا مثل هذا له تأثيره المعنوي والسياسي البالغ التأثير على الأوضاع الداخلية في السودان، وتوازنات ومواقف القوى المختلفة هناك، وعلى علاقاته الدولية، وعلاقة الرئيس نفسه بالعالم، بشكل قد يخلق حالة عزلة مثل التي كان يعانيها صدام حسين في الفترة منذ حرب تحرير الكويت في 1990 إلى غزو العراق في 2003.

ووسط حمى ردود الفعل على قرار المحكمة الجنائية الدولية، والتحركات الدبلوماسية، أعلن مسؤولون سودانيون أنه تم وضع خريطة طريق لهذه الأزمة، لكن يبدو أنها خريطة الطريق الخطأ التي ستجعل الاتجاه يأخذ مسارا مشابها للمسار الذي سار فيه صدام حسين وانتهى بكارثة للعراق، فالبيانات العنترية، والوفود التي جاءت مساندة ومنددة بالمحكمة الجنائية وازدواجية المعايير الدولية إلى آخره لا يوجد لديها ما يفيد، وجاءت لاستغلال الأزمة وتسجيل نقاط، وتهييج الرأي العام لأهداف خاصة بها. كما أن طرد منظمات الإغاثة وإطلاق التهديدات والشتائم في كل اتجاه يضعف من يحاول إيجاد مخرج للأزمة، ويسد الأبواب الخارجية، ويقوي الرأي القائل إنه لا فائدة سوى تفعيل قرار الجنائية ومنحها العضلات اللازمة للتنفيذ، أو إجراءات أخرى شهدناها سابقا في حالة عراق صدام حسين، مثل العقوبات وحظر الطيران إلى آخره.

وهنا لا بد من القول بأن قرار المحكمة الجنائية لم يكن مفاجئا، وهو متوقع منذ أشهر، وكانت هناك فرص على مدار سنوات ماضية لتفادي هذه الحالة، لو كانت هناك إجراءات اتخذت على الأرض لحل المشكلة في دارفور ومحاكمة المتسببين في الجرائم الإنسانية هناك. فمهما قيل عن السبب أو من الذي قتل من، تظل هناك حقيقة قائمة، وهي جريمة بكل المقاييس، مئات الآلاف من القتلى، وقرى محروقة، ومهجرين ولاجئين ونازحين بأعداد هائلة، ولا تستطيع السلطة الحاكمة أن تتهرب من مسؤوليتها عن وصول الوضع إلى مثل هذه المأساة في إقليم يخضع لسيادتها.

ومن الخطأ أن يؤخذ قرار المحكمة الجنائية الدولية ذريعة لعدم مواصلة الجهود السياسية لحل الأزمة في دارفور مع الحركات هناك؛ لأن وجود القرار من عدمه لا يلغي حقيقة أن هناك أزمة ليست صغيرة، وأن تفاقمها مع وجود قرار مثل هذا يتمتع بشرعية دولية سواء قبلناه أو لم نقبله، سيجعل الوضع غير محتمل، ومن المؤكد أن تأثيره المحلي سيتجاوز إطار دارفور، وهذا هو التحدي الذي يواجه النخبة والقوى السياسية هناك في الفترة المقبلة، فالبلد هو الباقي.