رسائل مصرية وسعودية.. لمن يهمه الأمر!

TT

كمصري فقد كنت مثل كثيرين شعروا بامتنان لرسالة خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز آل سعود إلى الرئيس حسني مبارك والتي حيا فيها الجهود المصرية خلال أزمة غزة الأخيرة، مقدما تأييده للخطوات التي قطعتها القاهرة بعد وقف إطلاق النار. وبشكل من الأشكال جاءت الرسالة في وقتها تماما؛ لأنها حملت تقديرا لعمل شاق قامت به مصر والقيادة المصرية وبخبرة ماهرة لإنقاذ الشعب الفلسطيني، وحماية العلاقات العربية العربية من الانهيار، وفي وقت كانت فيه الحملة على مصر قد وصلت إلى مستويات مسفة. كانت الرسالة ببساطة، تضع الأمور في نصابها، وتعطي إشارة من المملكة العربية السعودية بوزنها وقدرها، أنها تقف بوضوح إلى جانب مصر، وفي الوقت نفسه فإنها تقاسمها الجهود والعمل من أجل تحقيق ذات الأهداف. وهي رسالة جاءت متوجة لجهود سعودية كثيرة، ومواقف شريفة اتخذتها وسائل الإعلام السعودية أو المرتبطة بها سواء داخل أو خارج المملكة.

وربما كان هناك على الجانب الآخر من الصورة في المملكة العربية السعودية من شعر أيضا بالامتنان للرسالة التي وجهها الرئيس حسني مبارك إلى شقيقه في المملكة العربية السعودية، حيث كان التقدير والمشاعر ليست رسالات متبادلة بين القيادات، ولكنها رسالات لشعوب وأمم ودول في القريب والبعيد على أن أزمة غزة مثلت إضافة جديدة لروابط متينة تم اختبارها عبر عقود من العمل المشترك، وأزمات طاحنة، تنوعت بين مناطق مختلفة في العالم العربي والإسلامي والذي لا يكف عن توليد الأزمات والصراعات.

ولكن ربما آن الأوان لتخطي مشاعر الامتنان المتبادلة لكي نرى ما في هذه الرسائل من قيمة استراتيجية من ناحية، وما سوف تلاقيه من تحديات يحسن التحسب لها من ناحية أخرى، وأكثر من ذلك التطلع إلى الفرص الكامنة في هذه العلاقة التاريخية من ناحية ثالثة. ولا يخفى على أحد أن العلاقات المصرية - السعودية على مدى العقود الأربعة الماضية، وبالتحديد منذ عام 1970 كانت هي حجر الزاوية فيما يسمى بالنظام العربي كله. وفيما عدا فترة قصيرة من التوتر - كان ممكنا تلافيها - خلال مرحلة كامب دافيد ومعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، فإن العلاقات بين القاهرة والرياض استمرت في التعمق على كافة المستويات. وعلى المستوى الشعبي، فإن هناك أكثر من مليون مصري يعملون ويعيشون في المملكة، بينما يوجد أكثر من 400 ألف سعودي لهم أشكال مختلفة من الإقامة في مصر؛ أما على المستوى الاقتصادي، فإن كليهما يعد شريكا اقتصاديا رئيسيا للطرف الآخر سواء في التجارة أو الاستثمار، بل إنه الشريك الأكبر في المنطقة العربية كلها. وإذا أضفنا إلى كل ذلك تعاونا أمنيا وثيقا في مجالات عدة؛ فإن الرسائل الملكية والرئاسية تصبح واقعة في إطارها الصحيح المستند إلى علاقات وثيقة بالفعل على مستوى الشعوب والحكومات.

وحتى بالنسبة لفترة التوتر التي جرت إبان اتفاقيات كامب دافيد وما صاحبها من أزمات عربية فإن مبادرة الملك فهد - رحمه الله - التي عرفت بمبادرة فاس لتحقيق السلام العربي - الإسرائيلي، وبعد ذلك مبادرة الملك عبد الله التي صارت المبادرة العربية للسلام، قد وضعت التوجه المصري للسلام والتسوية في إطاره الإقليمي العربي. ولم يكن في الأمر على جانبه المصري والسعودي تفريطا في الحقوق العربية، بل كان وضعا لها على الطريق الصحيح بعد أن شارك البلدان خلال حرب 1973 بالدم والبترول في تحقيق أول انكماش جرى في الإمبراطورية الإسرائيلية الممتدة من الجولان إلى قناة السويس. ولكن ما كان أهم من الوقوف في وجه التوسع الإسرائيلي، فقد كان الوقوف أمام كل أشكال التوسع الأخرى والتي تهدد الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، سواء كان ذلك ممثلا في عملية «تصدير الثورة» الإيرانية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي أو في التوسع العراقي بغزو الكويت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي أيضا أو حتى الغزو الأمريكي للعراق وآثاره خلال الأعوام الماضية.

وفي الحقيقة فإن الرابطة المصرية السعودية الاستراتيجية فرضتها ثلاث حقائق مترابطة: أولها أن هناك دولة مصرية، ودولة سعودية، قوية في داخلها وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الحاكم، بمعنى أن لديها القدرة على السيطرة على كل إقليمها الجغرافي، وتعبئة قواها الشعبية في الاتجاهات التي تريدها القيادة السياسية. وثانيها وجود قيادة حصيفة، والحصافة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية خاصة تعني القدرة على الحكم، والحكمة في التصرف، ووزن الأمور والتصرف فيها بموازين تحمي الأوطان وتدافع عنها ولا تدفعها إلى موارد التهلكة. هنا، في القاهرة أو في الرياض، لا يوجد مجال للشعارات الحماسية، والعنتريات الكلامية. وثالثها إيمان كامل بإمكانية تحقيق الأهداف العربية المشروعة من خلال الارتباط بالعالم وليس بالعزلة عنه، والاشتباك مع الإقليم وليس الدخول في مواجهة معه. وليس معنى ذلك نكوصا عن استخدام القوة العسكرية، فقد استخدمتها الدولتان عندما كان ذلك ضروريا، وإنما هو العلم الكامل بأن القوة المسلحة هي دائما آخر الأوراق وليس أولها، وهي أوراق لا تستخدم لتسجيل النقاط، أو لصناعة انتصارات وهمية، وإنما هي امتداد للسياسة لتغيير أمر واقع غير مقبول وغير قابل للاستمرار.

هذه الحقائق الثلاث التي عبرت عنها الرسائل المتبادلة أصدق تعبير، تحتاج إلى دعم يكفل استمرارها؛ لأن ما هو قادم من تحديات سوف يضعها أمام اختبارات جديدة. فهناك على المستوى الدولي توجد الأزمة الاقتصادية العالمية التي تضغط على البلدين، وحتى لا نقع فريسة الانتظار للحلول العالمية – أو الأمريكية - للأزمة، فإن حلها ممكن من خلال تعميق الاقتصاديات المحلية، وأكثر من ذلك الإقليمية. ولحسن الحظ فإن النظام البنكي والمالي في البلدين قد أثبت صلابته خلال هذه الأزمة، وبقي التعامل مع الأزمة الاقتصادية من خلال استثمارات تجعل السوق المحلي والإقليمي قادرا على الصمود أكثر مما هو عليه الآن. وضمن هذا الإطار فإن دخول مصر ضمن الاتحاد الجمركي الخليجي، ومساندة السعودية لها، هي خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، ولكن ما نحتاجه الآن وفورا فهو المزيد من الاستثمارات المشتركة في كلا البلدين.

وهناك على المستوى الإقليمي، كما هو معلوم، تحديات كثر من أول ما تمثله إيران خلال هذه المرحلة التي تتسم بقيادة رعناء ذات توجهات للمواجهة مع الغرب من خلال مسارح عربية، وحتى القضية الفلسطينية مع كل تعقيداتها التي زادت مع انتخاب نتنياهو وكتلة اليمين الإسرائيلي، ومشكلات لبنان والعراق والسودان والصومال، حيث تتشابك التفاعلات الاستراتيجية الإقليمية مع واقع محلي منقسم بالقبائلية والمذهبية، والتي يوجد فيها لمصر والسعودية مصالح بالغة الحيوية قد تختلف في درجتها بين القاهرة والرياض، ومن حالة لأخرى، إلا أن القاسم المشترك موجود في كل الأحوال. والحقيقة أنه لا يمكن التعامل مع هذه المشكلات إلا من خلال تفاهمات استراتيجية عميقة، وحتى الآن فإن هذه التفاهمات موجودة بالفعل على مستوى القادة حيث يجتمعون بصورة دورية مستقرة، كما أنها جارية بأشكال عملية بين الأجهزة الأمنية والحكومية المختلفة. ولعل مثلا موجودا أيضا على المستوى الشعبي، حيث عرف الشعبان المصري والسعودي كيف يعبران في معظم الأحيان ثقافات وتقاليد مختلفة بسلاسة ويسر.

ولكن ما هو غائب حتى الآن، فهو الأجهزة المعاونة القادرة على بحث مجالات التعاون المختلفة ووضعها في إطارها الاستراتيجي وتوليد الخيارات المختلفة للتعامل مع مواقف بالغة التعقيد والتركيب. ولو تصور أحد أن حلف الأطلنطي يعيش فقط على لقاءات القادة والزعماء لكان الحلف قد انهار منذ وقت بعيد على الأقل بعد انهيار حلف وارسو، ولكن الأمر لم يكن كذلك لأنه كانت هناك شبكات واسعة من العلاقات بين المراكز البحثية، والتفاعلات بين أطراف المجتمع المدني، وما بين أشكال مختلفة من الإعلام، والأهم من ذلك كله ذيوع المعرفة بأركان التحالف وظروفهم الداخلية. وربما كانت المقارنة صعبة مع حلف الأطلنطي، ولكن الرسالة هنا لمن يهمه الأمر أن الرابطة المصرية - السعودية تحتاج إلى جماعة دعم تعطيها آفاقا جديدة فضلا عن قدرة مؤسسية على مواجهة واقع معقد.