مكيَّة: «تسقيف الصحن الحسيني كارثة»!

TT

لعلَّ كربلاء والنجف، اللتين أنشأتهما، أو أحيتهما، الأضرحة، أضافتا إلى أسباب نشأة المدن، على ما أورده أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ): «إن المدن تُبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة»(الإمتاع والمؤانسة)! لهذا لا معنى للمدينتين بلا مسببات إحيائهما. وإن جرى الحديث عن إعادة تخطيط عمرانهما، فلا يعني سوى تلك المزارات، وما حولهما من بقية التفاصيل!

تلك مقدمة لأهمية الروضة الحسينية لتاريخ وحاضر كربلاء، وما حصل من كارثة بتسقيف صحنها، هزت المعمار المعروف محمد مكية، وهو يُقلب صور عملية التسقيف. وقد سألني ماذا ترى؟! قلتُ: ورشة حِدادة! قال: «لم يُعتد على عمارة الروضة مثل هذا الاعتداء! بل أجدها فاجعة وإهانة»!

يعتصر مكية، والأصلاء من معماري العراق، ألمٌ على ما يضمر لبغداد ومدن العتبات من تشويه وفوضى! فهل رأيتم صحن مسجد أو ضريح أو دير يُحجب عن السماء بأطنان من الحديد! وما مصير القبة ومنارتيها، وهي تبدو، بعد التسقيف، جسماً مكوراً ملقى على السطح! كان يدلف الزائر من فضاء الصحن، المفتوح إلى السماء، مملوءاً بالطمأنينة التي يبعثها المكان. بينما أخذ يدلف إلى خان، لا إلى روضة ضوؤها الشمس وهواؤها الفضاء. تأتها الطيور، المحرمة على الصياد، من ألف عام ويزيد. أما فكرَ المسقف بإلفتها للمكان! وهي الحمائم التي جعلها المخيال الشعبي تطوف حول مذبح الإمام الحسين!

جاء في الدليل العراقي الرسمي لعام 1936: «يقوم ضريح مُقام الحسين، عليه السلام، وسط صحن عظيم في كربلاء تتلألأ فيه القُبة الذهبية مع مئذنتيها الأبريزيتين. أما الصحن فمن أفخم الجوامع في العراق». لا يُرى هذا المشهد بعد تحول الصحن المضيء إلى خان معتم، فليس هناك من عازل بينه وبين الطريق، حيث يدلف الزائرون إلى جوف خان.

مرَّ على الروضة الحسينية ثماني عمارات، الأولى بين أن يكون الباني جماعة من بني أسد، حيث دفنوا شهداء الطف، وبين المختار بن عبيد الله الثقفي (قتل 67هـ). أما الثانية فعلى يد عبد الله المأمون (ت 218هـ)، والثالثة على يد المنتصر بالله (قتل 248هـ)، والرابعة أقامها الداعي الصغير بعد سقوط العمارة السنة 273هـ، والخامسة قام بها عضد الدولة البويهي (ت 372هـ)، وأقام الصحن الصغير. والسادسة أقيمت بعد حريق الروضة السنة 407هـ، والسابعة شيدها الناصر لدين الله (ت 622هـ). أما الثامنة فمن فعل السلطان الجلائري العام 767هـ، وهي التي شهدها ابن بطوطة (ت 779هـ)، وقال فيها: «على باب الروضة الحُجاب والقَومة، لا يدخل أحد إلا بإذنهم... وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة»(الرحلة). وفي ما بعد حدثت تجديدات قام بها شاهات صفويون وسلاطين عثمانيون.

أتيت على هذا التاريخ كي أضع أمام مسؤولي الدولة: أنه لم يفكر أحد بفعلة التسقيف، على مر الأزمان، مثلما فُعلت في زمانهم، وما سيسجله التاريخ ضدهم من نكبة عمرانية! لقد سجلَ ضد متصرف كربلاء آنذاك (1948) الإساءة لهدم الصحن الصغير، القائم منذ العهد البويهي، ومن قبله ضد مَنْ هدم منارة العبد (1935)، التي أقامها صاحب جامع مرجان الشهير ببغداد، العام 767هـ، وتُعد الثانية قواماً وضخامةً بعد ملوية سامراء. وقد كتب ابن سادن الروضة عبد الجواد الكليدار(ت 1959): «لم يبق لهما من أثر إلا في أعماق النفوس الحريصة على الآثار الفنية القديمة.. وكان لنا أمثالها ولم نُقدرها»(تاريخ كربلاء)! وقال آخر في توسعة الصحن وسيقولها إن شهد تسقيفه: «وربما يُزال كالسبيل.. إن بني الصحن على التعديل»!

أقول: من غير التسقيف، على الدولة ألا تجامل في أمر عمران مدن العراق، وتمنحها لمؤسسات خيرية إيرانية! ومنها ما لم يرسم خطاً، ولم يضع حجرة في مشاريع إيران العمرانية! اسألوا حوزات إيران ومعماريها: هل يعتمدون تلك الجمعيات لإعمار ديارهم! وهل يوافقون على تحويل عتبات خراسان وقُم إلى خانات! لا تعجبوا، فما يأتي من إيران ما ليس له رواج هناك! لا بد للحكومة وللحوزة الدينية التحرك لتصحيح ما سكتتا عنه من عبث في الروضة الحسينية، وما سيعبث في المعالم العمرانية الأخرى! ما رأيكم لو حدث التسقيف في العهد السابق، ألا نقيم الدنيا ولا نقعدها! ونعده خراباً لحضارة البلاد، وعبثاً طائفياً بمقدساتها!

[email protected]