خريف استحقاقات سياسية واقتصادية في لبنان

TT

بالرغم من تصاعد الانتفاضة الفلسطينية، والغارتين الاسرائيليتين على موقعين عسكريين سوريين، في الربيع وبعده، فان الصيف السياسي اللبناني، خلافاً للتكهنات، لم يكن حاراً. فلا الحدود الجنوبية اشتعلت ولا البنى التحتية قصفت بالصواريخ الاسرائيلية، ولا العلاقات اللبنانية السورية تعرضت للتوتر أو التأزم. بل مرت مناقشة الميزانية في المجلس بسلام، ولم تتعد عاصفة التنصت على هواتف الرؤساء والنواب «الفنجان»، وخفت حدة المعترضين والمعارضين للوجود أو للهيمنة السورية في لبنان، وانتهى «الكباش» بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة حول تنفيذ القرار 425 ودور وحجم القوات الدولية، بتسوية «لا غالب فيها ولا مغلوب». وتوجت هذه الظواهر الايجابية، بالزيارة التي قام بها البطريرك الماروني، نصر اللّه صفير، إلى الشوف، حيث استقبلته الجماهير الدرزية والمسيحية، معاً، مكرسة بذلك مصالحة وطنية تاريخية بين الطائفتين الاساسيتين في جبل لبنان السياسي، اي الدروز والموارنة. هاتان الطائفتان اللتان كان تعايشهما وتفاهم زعمائهما يحمل إلى الجبل اللبناني السلام والازدهار، ويؤدي اختلافهما إلى الفتنة والحروب والدمار.

هل يجوز القول أو الاعتقاد بأن لبنان يمر اليوم، في «حالة نعمة»، كما يقول المثل الفرنسي؟ وانه بدأ يطوي صفحة الحرب ورواسبها ويتقدم نحو آفاق سياسية أو مصيرية جديدة، واضحة المعالم، ومختلفة عن الآفاق الغامضة أو المجهولة التي كان يقاد أو ينقاد نحوها منذ ان توقفت الحرب فيه، انه من المبكر، أو من قبيل الافراط في التفاؤل، الاعتقاد بان لبنان أو بالاحرى اللبنانيين، وجدوا الطريق المصيري الواضح المعالم والآفاق. أو بأن كل العقبات ازيلت من امامهم وأمام حكومتهم ومن امام تقدمهم في هذا الطريق. فقضية الجنوب، رغم الهدوء النسبي والتسوية أو تأجيل القرار في مجلس الأمن، ما زالت عالقة، بل مرشحة للانفجار في اي لحظة يقرر حزب اللّه فيها القيام بعملية مقاومة وتقرر الحكومة الاسرائيلية الرد عليها. والخطة الحكومية، المالية والاقتصادية، التي لا اعتراض داخلياً أو دولياً على جديتها وجدواها، ما زالت في بداية تنفيذها. وما زالت الاوساط والمرجعيات المالية الدولية تنتظر هذا التنفيذ الجدي للخطة، كي تمد لبنان بالقروض والمساعدات والرساميل، التي قد تساعده على الخروج من مأزقه المالي. وفي طليعة شروط «الجدية في التنفيذ»، اقدام الحكومة اللبنانية على بعض الخطوات السياسية والإدارية الاصلاحية، وفي مقدمتها: تخصيص القطاعات العامة التي تكبد الدولة مئات الملايين من الدولارات لتغطية خسائرها، والقيام بإصلاح اداري يوقف الهدر والفساد في الادارات العامة، فهل ستتمكن الحكومة اللبنانية من تحقيق هذه الشروط، وبالتالي من الحصول على المساعدات الخارجية والدولية، قبل ان يضيع تزايد الدين العام وعجز الموازنة، عليها هذه الفرصة. وهي فرصة يصر البعض على اعتبارها «الفرصة الاخيرة»؟

لقد اجتازت الحكومة اللبنانية، في الايام الأخيرة، «قطوعين»، (أي حالتين خطرتين، بالتعبير اللبناني الدارج): قرار مجلس الأمن بشأن القوات الدولية الموجودة على الحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية، والتعيينات الادارية لموظفي الفئة الأولى. استطاعت المساعي الديبلوماسية اللبنانية ان تخفف من قساوة قرار مجلس الأمن أو ان ترجئ تنفيذه، ولكن هذا التخفيف أو الارجاء لا يعنيان ان بين لبنان والأمم المتحدة، شهر عسل بل ان لبنان ما زال، حتى الآن، متمسكاً بموقفه من عدم تنفيذ اسرائيل للقرار 425، وبحقه في المقاومة لتحرير مزارع شبعا، وعدم ارسال الجيش إلى الحدود، متحدياً الأمم المتحدة ومجلس الأمن والدول الكبرى. وبصرف النظر عن النواحي القانونية أو الشرعية، فإن الموقف اللبناني يشكل تحدياً ومخاصمة للأمم المتحدة. وان الأمم المتحدة والدول الكبرى قد «لا تغفر» للبنان، موقفه هذا. واما بالنسبة للتشكيلات الادارية والاصلاحات والخصخصة وعصر النفقات، التي ينادي الجميع، مع الحكومة، بها، ويتمنون تحقيقها، فإنها لن تمر بسهولة، لاصطدامها بعقبات طائفية وحزبية وانسانية. وقد لجأت الحكومة إلى «حيلة قانونية» لتتمكن من اجراء تعيينات تملأ الشواغر في ملاك الوظائف الكبيرة، فألفت لجنة واحالت مشروع قانون بها إلى المجلس، مخالفة، كما صرح احد النواب، الدستور والقوانين والاعراف التي تنيط بالحكومة اجراء التعيينات الادارية دون الحاجة إلى لجنة وقوانين خاصة.

ان الاشهر الاربعة المقبلة، قد تمر بسلام على الحكومة اللبنانية، لا سيما وان موسم الاصطياف «ليس بطالاً»، كما يبدو، وان لبنان سوف يستقبل قمة الفرانكوفونية على ارضه، مما يتيح له اطلالة دولية جيدة. كما ان الاجواء السياسية والوطنية، بوجه عام، تبدو اقل توتراً وحدة وخصوصاً بالنسبة للعلاقات اللبنانية ـ السورية. كما يخيم على الجو السياسي العام انفتاح الاحزاب اللبنانية، المتعادية بالأمس القريب، على بعضها بعضاً، و«انكسار سم» الطائفية وتشنجاتها السياسية، بالإضافة إلى تحركات وتمخضات وتبلورات سياسية ووطنية جديدة تبشر بتغيرات مهمة في الخريطة السياسية اللبنانية، ونشوء تكتلات أو جبهات سياسية جديدة مرشحة لتغيير لعبة الحكم والمعارضة الدائرة منذ عشر سنوات في لبنان. وما زيارة البطريرك الماروني إلى الشوف، وما نشوء حركة التجدد الديموقراطي، وغيرها من الاحزاب والتكتلات الجديدة، أخيراً، الا بعض ظواهر هذه التحولات الوطنية والسياسية الجديدة في لبنان.

هل يجتاز لبنان، ما تبقى من عام 2001، بسلام، اي بدون اشتعال حدوده الجنوبية، وبنجاح حكومته في تحقيق الاصلاحات الادارية والحصول على المساعدات الدولية، ويتجنب «الكارثة» التي يتخوف منها كثيرون، ان فشلت خطة الحكومة؟ وماذا اذا لم تنجح خطة الحكومة أو داهمتها احداث غير مرتقبة؟

السؤال مخيف. ولكن ما زال في لبنان من يؤمن بالمعجزات، ويقول بأن لبنان مر، خلال الحرب، بأيام اصعب بكثير مما يمر به الآن، واستطاع الصمود والخلاص.

صحيح. ولكن؟