شارون يضرب الانتفاضة الفلسطينية بهراوة السياسة الأميركية

TT

أقدمت حكومة آرييل شارون في الأسبوع الماضي، على تصعيد لافت، لا يمكن النظر إلى تسارع حلقاته الا على أنه تصعيد مقصود. فعلى مدى ثلاثة أيام متلاحقة، جرى اقتحام المسجد الأقصى في القدس، وجرى اغتيال شهداء فتح الستة في مخيم الفارعة قرب نابلس، واغتيال شهداء حماس الثمانية في مبنى المركز الفلسطيني للدراسات والاعلام في مدينة نابلس. ولا يحتاج الأمر إلى عناء كبير للاستنتاج بأن من يقدم على هذه الخطوات الدموية المتلاحقة، يدرك أن خطواته ستولد ردود فعل عنيفة، لا تقتصر على أوساط الفلسطينيين أنفسهم، انما هي تتجاوز الفلسطينيين إلى المنطقة العربية المحيطة بهم. فماذا تريد حكومة شارون من وراء هذا التصعيد، وهل أقدمت عليه منفردة أم بايحاء من طرف آخر، هو بالضرورة الطرف الأميركي الحليف لها؟

لقد مرت مرحلة في الانتفاضة مارست فيها اسرائيل اغتيال القيادات الفلسطينية، ومرت مرحلة في الانتفاضة أقدمت فيها اسرائيل على احتلال جزء من الأرض التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، ومرت مرحلة في الانتفاضة فكرت فيها اسرائيل جدياً في اجتياح مواقع السلطة الفلسطينية وتدميرها، وكل ذلك من أجل حسم موضوع الانتفاضة أمنياً، وتوفير النجاح لمخطط شارون الذي فاز بالانتخابات على أساسه. ولكن هذه التطلعات الاسرائيلية للحسم الأمني، وتجديد الاحتلال، والتهديد بالحرب الشاملة، تراجعت أمام أوامر اميركية بالانسحاب، وأمام ضغوط أميركية وأوروبية، رفضت منطق الحرب، داعية وفارضة منهج وقف اطلاق النار الا ان ما حدث في الأسبوع الماضي كان تجديداً اسرائيلياً للمنهج نفسه الذي تم تجريبه ثم تم رفضه وايقافه، وما كان لمثل هذا التجديد أن يحدث من دون أن تكون هناك جهة ما سمحت لاسرائيل بذلك، ولا يوجد جهة قادرة على توفير مثل هذا السماح سوى الولايات المتحدة الاميركية.

ولنتذكر كيف بدأت المسألة.

لقد انفجرت الانتفاضة في وجه حكومة ايهود باراك أولاً، ثم تواصل انفجارها في وجه حكومة شارون، وفي أثناء ذلك أصبح جورج بوش الابن رئيساً جديداً للولايات المتحدة، وكان من اول مشروعاته السياسية وضع خطة جديدة لمحاصرة العراق، تقوم على اساس حرية العراق في البيع والشراء، شرط تشديد الحصار العسكري عليه، وتشديد مراقبة أوضاعه المالية، ومطلوب من الدول المحيطة في هذه الخطة، أن تلعب دور المحاصر والرقيب، وبخاصة الأردن وسوريا وتركيا، واطلق على هذه الخطة اسم «العقوبات الذكية». ولكن ما حصل على أرض الواقع هو أن الدول العربية رفضت هذه الخطة، ورفضت أن تكون أداة في تنفيذها، وطالبت برفع العقوبات الاقتصادية عن العراق، وهنا برز التكتيك الأميركي المكشوف، والذي أراد مقايضة ارهاب شارون بالقبول العربي للخطة الأميركية ضد العراق (وضد ايران في وقت لاحق)، وحين كان الأميركيون ينأون بأنفسهم عن التعامل مع ارهاب شارون، مقدمين له بذلك الحماية السياسية والتشجيع، كانوا يبررون موقفهم هذا بأنهم يريدون التعامل مع حل اقليمي شامل لا مع حلول جزئية هنا وهناك. ولم يخفف الأميركيون من وطأة موقفهم المساوم هذا الا بعد أن بدا الفلسطينيون صامدين في انتفاضتهم، وأن العنف الاسرائيلي المتصاعد لم يتمكن من فرض ارادته عليهم، حتى أن الاسرائيليين لم يجدوا أمامهم في النهاية من مخرج، سوى التفكير بالقضاء على السلطة الفلسطينية، والمغامرة باندلاع حرب اقليمية شاملة جديدة، وهو خط أحمر ما كانت الولايات المتحدة تستطيع القبول به، لأنه يعني كسر توازن اللعبة التي تديرها لاستمرار سيطرتها على منطقة الشرق الأوسط، ولأن اندلاع حرب عربية ـ اسرائيلية يعني الغاء حالة التحالف القائمة في المنطقة مع الولايات المتحدة منذ حرب الخليج عام 1991، وهي تتطلع إلى تجديد هذا التحالف لا إلى إلغائه.

وحين رأت الولايات المتحدة أنه لا بد لها من أن تتحرك، لتهدئة ضغط اصدقائها العرب، أطلقت تقرير لجنة ميتشل، ثم أطلقت خطة جورج تينيت (رئيس CIA) التنفيذية لتطبيق بنود التقرير. وتفاءل العرب خيراً، وانتظروا ليروا نتائج ذلك. ولكن حدث مرة أخرى ان الولايات المتحدة عاودت أسلوب المساومة والضغط، وصولاً إلى الهدف الخاص بها من الخطة الشاملة المتعلقة بالشرق الأوسط، وكان مدخل المساومة هذه المرة تقرير لجنة ميتشل نفسه، فهذا التقرير يتضمن بندين، بنداً أمنياً وبنداً سياسياً، وهو ينص على تنفيذ البندين معاً كرزمة واحدة، وهو ما رفضته اسرائيل، مطالبة بالتنفيذ الأمني أولاً وكبند يخص الفلسطينيين، لتسجيل أنهم هم المسؤولون عن العنف وليس اسرائيل، ولتسجيل انتصار سياسي عليهم. وهنا حصلت مواجهة فلسطينية ـ اسرائيلية، فعلى وقع العنف الاسرائيلي المتصل، طالب الفلسطينيون بالحماية الدولية، بينما طالب الاسرائيليون بوقف كامل لاطلاق النار يستمر أسبوعاً، ليبدأ بعد ذلك التعاطي مع بقية بنود تقرير ميتشل وخطة تينيت، وجاء وزير الخارجية الأميركي كولن باول إلى المنطقة ليبرز اهتمام واشنطن، وقام باول بارتكاب خطأين كبيرين: وافق مع الفلسطينيين على مطلبهم بالحماية الدولية ثم تراجع عن هذه الموافقة بعد أن جلس مع المسؤولين الاسرائيليين، وأعلن ان اسبوع وقف العنف (وهو بند لم يرد في خطة تينيت) يقرره شارون شخصياً، وجاء هذا الانحياز الأميركي لاسرائيل على شكل فضيحة سياسية وبطريقة لا تليق بدولة عظمى. وكان شارون ينتظر هذه الاشارة الأميركية ليواصل عنفه الأعمى، ومارسه من ضمن الضوابط الأميركية الرافضة لاعادة الاحتلال أو الحرب الشاملة، ولجأ هنا إلى أسلوب القصف الشامل للمدن بعد كل حادث أمني كبيراً كان أم صغيراً. وبالرغم مما في هذا القصف الشامل من ايذاء الا أنه بقي منضبطاً ازاء الممنوعات، إلى أن وقعت أحداث الأيام الثلاثة المتلاحقة، من المسجد الأقصى، إلى حادثي القتل العمد في مخيم الفارعة ومدينة نابلس، ومثلت هذه الأحداث تصعيداً استفزازياً يتجاوز الممنوعات الأميركية، وهو تجاوز ما كان له أن يحدث لولا اشارة سماح أميركية. لقد عرضت الولايات المتحدة مخططها ضد العراق في مجلس الأمن، وواجهت هناك هزيمة سياسية حين تقرر تأجيل البحث والنقاش، بعد تهديد روسي باستعمال الفيتو، وقد برز هذا التهديد في ظل الموقف العربي الرافض للخطة الأميركية، بل وفي ظل اجراءات سورية وأردنية وتركية زادت من مستوى الانفتاح الاقتصادي على العراق، كما برز هذا التهديد في ظل موقف عربي غاضب من التهاون الأميركي في التعامل مع العنف الذي يمارسه شارون ضد الشعب الفلسطيني، وبلغ هذا الغضب ذروته في الغاء زيارة ولي العهد السعودي الأمير عبد اللّه للولايات المتحدة، وفي فشل الاتصالات الهاتفية التي أجراها جورج بوش الأب مع الأمير عبد اللّه في تليين الموقف السعودي.

ويبدو أن الولايات المتحدة ارتأت بعد ذلك القيام بهجوم مضاد، هجوم يعود بالمسألة إلى ايامها الأولى، ويتم السماح هنا لشارون بأن يصعد من عنفه، بينما تعود الولايات المتحدة إلى ممارسة الضغوط على العرب، وعبر هذا الهجوم المضاد عن نفسه بأمور عديدة منها:

أولاً: العودة إلى تهديد سوريا، من خلال اتهامها بانتاج أسلحة جرثومية، وتولى هذه المهمة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي أعلن أثناء زيارته إلى استراليا: ان الاستخبارات العسكرية الأميركية كشفت عن عدد لا يستهان به من الدول المتورطة في «التسلح وفقاً لتجهيزات حربية جرثومية»، وذكر الوزير أسماء سوريا وايران والعراق قائلاً: «إنها تسعى إلى تطوير أسلحة جرثومية، في خرق لتعهداتها في البروتوكول الهادف إلى التحقق من تطبيق معاهدة الأسلحة الجرثومية الموقعة عام 1972». وقد أصبح هذا النوع من التهديد وسيلة شائعة، تلجأ اليها الولايات المتحدة كلما أرادت الضغط على بلد ما يعارض سياساتها، وهي وسيلة أميركية تتسم دائماً بأنها تتهم البلد العربي المعني، بينما هي ترفض توجيه أي ضغط على اسرائيل بسبب امتلاكها للأسلحة النووية، أو بسبب رفضها التوقيع على معاهدة حظر الأسلحة النووية، واخضاع مؤسساتها للمراقبة الدولية. وهناك زاوية مضحكة في هذا الموقف الأميركي ضد سوريا، فهي تنتقدها لأنها لا تلتزم بمعاهدة الأسلحة الجرثومية التي وقعت عليها، بينما ترفض الولايات المتحدة نفسها قبول هذا البروتوكول والتوقيع عليه.

ثانياً: العودة إلى تهديد العراق بضربة عسكرية، بحجة أنه استطاع تطوير أسلحة صاروخية اصبحت تشكل تهديداً للطيران الأميركي الذي يراقب مناطق حظر الطيران في جنوب وشمال العراق، فقد أعلنت أن صاروخاً عراقياً كاد يصيب طائرة U 2 التي تطير عادة في الأجواء العالية من أجل التجسس، ولم يستطع سوى الاتحاد السوفياتي أن يسقط طائرة منها أيام الحرب الباردة. ثم تم الاعلان عن صاروخ عراقي آخر كاد يهدد طائرة أواكس أميركية في أجواء السعودية. والغريب هنا ان العراق نفى الحادث، وقال ان الطائرة التي استهدفها كانت طائرة أميركية من نوع F 16 وليس من نوع U 2، كما ان القوات الأميركية نفسها نفت الحادث الثاني ضد طائرة الأواكس، وقالت ان راداراتها لم تسجل حدثاً من هذا النوع. ويكشف هذان التوضيحان ان ما تعلنه الولايات المتحدة هو نوع من الحملة الاعلامية لتهيئة الجو من أجل توجيه ضربة عسكرية للعراق، وليس مهما هنا أن يكون الاعلان صحيحاً أم لا، المهم أن يتم الاعلان، وأن يتم الترويج له في الأجهزة الاعلامية على مستوى العالم ليصبح حقيقة واقعة لا يملك الطرف الآخر وسائل نقضها.

ثالثاً: الضغط على لبنان من خلال بحث موضوع التجديد للقوات الدولية المتمركزة في جنوبه لتفصل بينه وبين اسرائيل. فاضافة إلى تخفيض عدد هذه القوات، جرى البحث بتغيير مهمتها لتصبح مهمة مراقبة فقط، وذلك من أجل الضغط على لبنان كي لا يواصل المطالبة بتحرير مزارع شبعا، واعتبار خط الحدود الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة واستثنى مزارع شبعا، خط حدود رسمياً ومعترفاً به. ومع ان هذه المسألة لم يتم ادراجها في القرار الذي صدر قبل ايام، الا انها أصبحت رسمياً موضوعاً للبحث، أي أنها أصبحت أداة ضغط دائمة على لبنان، يمكن استخدامها في أي وقت تريده الولايات المتحدة.

لقد جاء تحريك هذه الضغوط الأميركية على البلاد العربية، مترافقاً مع تصعيد شارون لعملياته العسكرية، وبطريقة تحتم نقل آثار التصعيد إلى المناخ العربي المحيط، وهو تصعيد يسمح بالعودة إلى المساومة القديمة التي بدأت بها الأزمة وخلاصتها: اذا أردتم ضبط شارون فوافقوا على الخطة الاقليمية الأميركية، وهي رسالة فهمها العرب جميعاً، واثارت لديهم غضباً شديداً، وعمقت الاقتناع بأن المعركة مع شارون هي في العمق معركة مع الولايات المتحدة، وهو أمر ستكون له تداعيات كثيرة في الأيام المقبلة.