انتحاريون أم نرجسيون..؟

TT

أنا لا أذكر الآن شكل المدينة لا أذكر اسمي ينادونني حسب الطقس والأمزجة لقد سقط اسمي بين تفاصيل تلك المدينة لملمة عسكري المرور ورتبة في ملف الحكومة تزعم الناقدة والباحثة والطبيبة النفسية الاميركية (شانون ستيرمان) ان الميول الانتحارية عند الشعراء يمكن كشفها من قصائدهم، فالشعراء من ذوي النزعات الانتحارية كما تقول في بحثها المنشور في مجلة «سايكوسوماتيك ميديسن» يستخدمون اكثر من غيرهم صيغة المتكلم (أنا) ومشتقاتها.

ولأني اعرف ان الشعر العربي كله مليء بالأنا ولم ينتحر من شعرائه احد اجريت، لأهدئ هواجسي التي تنفر من الاحكام القاطعة، تجربة قصيرة، فأمسكت بأول ديوان وقع تحت يدي وكان بالصدفة (محاولة رقم 7) لمحمود درويش وفتحت كيفما اتفق فخرج مقطع الاستهلال ثم فتحت مرة اخرى فظهر مقطع «انوي» احبه من الايام الخوالي من قصيدة «موت آخر واحبك»، لكن أنا كانت مسبوقة بحرف الاشارة: هذا أنا أجيئك منك، فكيف احبك؟

كيف تكونين دهشة عمري واعرف ان النساء تخون جميع المحبين الا المرايا واذا كانت هذه حالة محمود درويش وهو ليس من الشعراء الانويين الفظيعين اصحاب الانوية المكثفة فكيف يكون الامر مع شاعر «انوي مركز» مثل ادونيس الذي يبذر الانا بسخاء في جميع دواوينه، وخصوصا اغاني مهيار الذي اكاد اجزم لو انه ترجم للباحثة الاميركية لاعتقدت استنادا لأبحاثها اللغوية ان ادونيس قد انتحر منذ وقت طويل.

ولأن ذاك الديوان الانوي بامتياز لم يكن تحت يدي وقت اجراء التجربة، فقد تناولت «مفرد بصيغة الجمع» ومع اول محاولة ظهر قوله من قصيدة سيمياء:

أنا الشاسع وليس في الفضاء ما يملأ عيني وفي المحاولة رقم 2 من التطبيق الادونيسي وليس الدرويشي وجدت ادونيس يقول في قصيدة تاريخ:

أنا النور لا شكل لي أنا الأشكال كلها فاكتفيت واطمأنت نفسي الى نجاح التجربة وحمدت الله لأن ابحاث الطبيبة الاميركية غير صحيحة، ولو كانت دقيقة علميا لما بقي في العالم العربي شاعر واحد، فجميعهم، وهذه قاعدة ليس لها استثناء، تنضح دواوينهم حتى حوافها العليا بالأنا الصريحة والمخففة والمحورة والمعدلة، فالشاعر العربي يظل، بغض النظر عن صيغ «انواته»، مركز الكون وأناه تملأ الخافقين. وهي ليست علامة على الميول الانتحارية انما على النرجسية المفرطة التي تجعل صحبة الشعراء لا تطاق، وتجعل اقرب الناس اليهم يهرب منهم على سبيل السجع والضجر، الى جزر واق الواق.

ان الميول الانتحارية تشير الى هشاشة داخلية وعدم قدرة على التأقلم، اما النرجسية، فعقدة مركبة تجعل صاحبها يدمر العالم في سبيل ذاته، وحامل لواء هؤلاء في الشعر العربي هو ذلك الشاعر الصريح الذي قالها (على بلاطة).

اذا مت ظمآنا فلا نزل القطر.