سنوات في مصر (1): في الطريق إلى القاهرة

TT

في منتصف الأربعينات، وفور تخرجي من جامعة بيروت الأمريكية بدأت رياح الشوق تهزني للسفر الى مصر! كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت وبدأ العرب في الذهاب الى مصر مأخوذين بسمعتها السياسية والأدبية والفنية والغنائية، محاولين كسبها الى جانب قضاياهم السياسية والقومية، وفي مقدمتها قضية الصراع العربي ـ اليهودي! ومع مولد جامعة الدول العربية ـ وقد اختارني الزعيم الفلسطيني موسى العلمي لكي أشهد معه مولد بروتوكول الاسكندرية ومولد ميثاق الجامعة العربية ـ رأيت القاهرة تحتضن صفوة رجال الزعامة والسياسة من سوريا ولبنان والعراق والسعودية والأردن! ولا أذكر انني رأيت صورة للزعامة العربية المسؤولة، في اشراقها وزهوها وغرورها وسعادتها وارتياحها، كما رأيتها في ذلك الحفل الساهر الذي أقامه الملك فاروق ـ آخر ملوك مصر ـ لرؤساء الوفود العربية الى اجتماعات الجامعة في قصر «عابدين» بالقاهرة وجلسوا يستمعون لأم كلثوم وهي تغني لهم قصيدة الشاعر المصري محمد الأسمر، ومطلعها:

زهر الربيع يرى أم سادة نجب وروضة أينعت أم حفلة عجب تجمّع الشرق فيها فهو مؤتلف كالعقد يلمع فيه الدر والذهب بني العروبة هذا القصر كعبتنا وليس فيه من الحجاج مغترب! ثم تصل الى نهاية القصيدة وتقول:

هذي يدي عن بني مصر تصافحكم فصافحوها تصافح نفسها العرب...

ثم تغني لهم:

غني لي شوية شوية غني لي وخذ عيني! فيستبد الطرب برئيس الوزراء اللبناني «المعمم» عبد الحميد كرامي ويصرخ وهو يقذف بطربوشه وعمامته الى سقف القصر الملكي.

ـ الله الله يا ست! كمان بالله كمان! وكان بين حضور تلك السهرة، كل من نوري باشا السعيد، وعبد الحميد كرامي، وفيليب تقلا، وسعد الله الجابري، وجميل مردم، والشيخ يوسف ياسين، وأمراء اليمن، وتوفيق ابو الهدى، وعشرات غيرهم. يتوسطهم ويتقدمهم جميعاً: فاروق الأول ملك مصر والسودان! وكانت منارات مصر، الأدبية والسياسية في ذلك الزمن تبهر الأنظار: ندوات جريدة «الأهرام» في مساء كل يوم حيث يلتقي ابن سعد، أو مكرم عبيد باشا مع احمد باشا عبد الغفار الوزير الصعيدي وخريج اكسفورد، مع أم كلثوم، مع يوسف وهبي مع أذكى رجالات مصر، حفني محمود ومع الشعراء محمد الأسمر وعلي محمود طه وابراهيم ناجي، ومع الأدباء محمود تيمور وزكي مبارك وتوفيق دياب، ومع الباشوات عبد الجليل ابو سمرة، ومحمد حسين هيكل باشا زعيم الدستوريين، ومن رجال القصر الملكي كريم ثابت، ومن كبار الأطباء الدكتور مجدي، والدكتور الجراح مورو باشا، وغيرهم.

ثم هناك جلسات البرلمان المصري، واستجابات المعارضة ضد الحكومة والقاء الخطب السياسية المطعمة بالأدب الرفيع والحجج القانونية من رجال كالهلالي باشا ومكرم عبيد باشا وأحمد ماهر، والنقراشي، وفؤاد سراج الدين وفكري اباظة والعقاد ودسوقي أباظة ورجال الحزب الوطني! وهناك ايضاً شارع عماد الدين.. او شارع الفن والممثلين الكبار والمطربين المشهورين وصالات الطرب الأصيل ودور عرض الأفلام السينمائية.. ودنيا اللهو والسهر! وهناك حديقة الحيوان.. وحديقة الأسماك.. وشارع الهرم.. وأبو الهول.. والنيل العظيم.. ودور الجامعات الموزعة في انحاء مصر! وهناك الحفلات الشهرية في ليالي الخميس، تحييها معجزة الطرب السيدة أم كلثوم بأغنية جديدة يرقبها الملايين وتطير لسماعها من بيروت ودمشق وعمان وبغداد عقيلات الملوك والرؤساء والزعماء.. وأصحاب الملايين! وهناك ايضاً روح مصر.. العربية.. المتوثبة صوب العرب والمسلمين! وما زلت اذكر ـ بل وأحفظ ـ عن ظهر قلب قولاً أدبياً مأثوراً للأستاذ الأديب الكبير الدكتور زكي مبارك قال فيه عن بلده مصر: «أليس من مفاخر العروبة ان تكون لها حاضرة مثل القاهرة؟».

ثم يقول مفاخراً:

«.. من الذي يستطيع ان يحاور في الصباح والمساء رجال الصحف الصباحية والمسائية. ومن الذي يصدق ان في القاهرة ألف خطيب في فصاحة سحبان.. وهنيئاً لمن يزور القاهرة وعنده ذخيرة من الوقت والمال والعافية.. وأين المدينة التي تزاحم القاهرة في مساورة القلوب والعقول.. ان الشيطان يجد في القاهرة مراتع لا يجدها في لندن ولا باريس ولا روما ولا برلين.. هي صلة الوصل بين الشرق والغرب.. والجمال المخضرم هو أفتن ضروب الجمال»! انتهى كلام الدكتور زكي مبارك.. عن القاهرة! ولم أكن بحاجة الى ذاك الكلام، ولا الى شيء مثله لكي يقنعني بسحر القاهرة وتأثيرها على القلب والعقل! لذا، شددت الرحال اليها مخلفاً ورائي بلدي الأعز، وأهلي المحبين، وذكريات عمري الذي لم يكد يبدأ حتى أوشك على الضياع.

وصحوت مبكراً في اليوم التالي على أصوات باعة الصحف ينادون على «الأهرام»، و«المصري»، و«المقطم». ولم تكن «الأخبار» اليومية قد صدرت بعد، وأطربتني الأسماء التي سعيت دوماً الى قراءتها او الاحتفاظ بها. ورحت أدق على ابواب تلك الأسماء الكبيرة من أصحاب تلك الصحف الكبيرة! واخترت غرفة مفروشة في شارع «مظلوم» مجاورة لمبنى «الأهرام» القديم داخل عمارة الأوقاف لكي تصبح عنواناً لي! وبجوار مسكني كان يقع بار «اللواء» الذي يقصده رجال الأدب والصحافة. وهناك تعرفت على الشاعر ابراهيم ناجي وزميله الشاعر صالح جودت، وزميلهما الشاعر الكبير احمد رامي، كما تعرفت على صحفي صغير الحجم اسمه: صالح البهنساوي، وقام هذا البهنساوي بتعريفي على كامل الشناوي الذي حملني مباشرة الى مكتب انطون باشا الجميّل.. رئيس تحرير «الأهرام»! أول مقال:

فلسطيني يصف مصر في جلسات «الأهرام» المسائية تحقق مولدي الصحفي..

ولما كانت صفة الجرأة ـ او الوقاحة اذا شئت ـ تتبوأ الصدارة في لائحة ما أعطاني الله من صفات، فقد قررت ان ادخل المبنى الصحافي من الباب الرئيسي، وان اكتب مقالاً خاصا للنشر في أوسع مجلة اسبوعية يومذاك ـ وأعني مجلة «الاثنين» الأسبوعية الصادرة عن دار «الهلال» ـ وأتحدث فيه، لا عن قضية فلسطين، ولا عن القدس، ولا عن العرب او اليهود، وانما اتحدث فيه ـ وبكل صراحة او وقاحة ـ عن.. مصر ورجالاتها وأدبائها! وكتبت المقال، وأعطيته لرئيس تحرير مجلة «الاثنين» ـ مصطفى امين ـ وكان محرراً في «الأهرام» بالاضافة الى عمله في دار «الهلال».. ونشر المقال مع صورة لي تحت عنوان: «فلسطيني يصف مصر!». والفلسطيني هو.. انا. ومصر هي مصر! وقامت القيامة. فقد كان المقال مليئاً بالغمز واللمز، وكانت سطوره تنبض بالحياة، والتهكم، والحب، والتجريح! واستقبلته سهرة «الأهرام» بأكثر من تعليق وأكثر من نقد وتقريظ. وكانت معرفتي بمصر ـ من الداخل ـ قبل وصولي اليها ـ اكبر عون لي في ان يصبح المقال المذكور ليس بعيداً عن الحقيقة. فقد كانت قضية بلدي ليست معروفة لدى تسعين في المائة من شعب مصر. وكان سعد زغلول ـ في عز زمانه ـ يسمي الدول العربية الشقيقة بالدول «الشرقية». وعندما جاء الزعيم موسى العلمي ممثلاً لفلسطين لكي يطالب بانضمام بلده الى الجامعة العربية، اشترطوا عليه الحصول على موافقة السفارة البريطانية قبل اي شيء آخر! وذهب موسى العلمي لكي يستنجد بالنحاس باشا الذي استنجد بدوره بأمين عثمان باشا ـ أصدق حلفاء الانجليز ـ الذي توسط لدى الجنرال «كلايتون» الذي تباحث مع السفير اللورد كيلرن الذي أوعز بالسماح لمندوب فلسطين بحضور بعض جلسات «الجامعة» دون ان يكون له أي حق في التصويت او الكلام! وانتهت حصة فلسطين في ميثاق الجامعة العربية.. بملحق تاريخي مختصر لا ينفع قشرة بصلة! وكنت أعلم مدى تجاوب بعض زعماء مصر، مع قضية بلدي.. ومدى تجاوب البعض الآخر مع اليهود والصهيونيين. وليس مما يدعو الى الشكر او التقدير ان يأتي رئيس الجامعة المصرية الأستاذ العلامة احمد لطفي السيد من القاهرة لكي يحضر حفل وضع الحجر الأساس لمبنى الجامعة العبرية على جبل سكوبس في القدس في عام 1923! وليس سراً ان زعيماً مصرياً كبيراً، وصاحب ملايين، مثل اسماعيل صدقي باشا لم يتردد في عقد العشرات من الصفقات المالية والتجارية مع مؤسسات يهودية داخل فلسطين وخارجها..

وليس مما يدعو الى الاعجاب او الشكر ان لا يجد عميد الأدب العربي في مصر الدكتور طه حسين، منبراً يتحدث فيه عن «آثار اليهود في الأندلس» سوى النادي اليهودي في الاسكندرية.. وان تتولى نشر نص المحاضرة جريدة «الشمس».. لسان حال الطائفة اليهودية في مصر!! وعلى نفس الطريق كان يسير «قطاوي» باشا.. وعبود باشا.. والشمسي باشا وحفنة من مستشاري السراي الملكية، وحفنة أخرى من رجالات القطن والمنسوجات والتجارة والبورصة في مصر وفي الاسكندرية! وكنت أرقب كل تلك الفصول وأدعو لنفسي بالصبر، وادعو لمصر بالخلاص..

وعندما التقيت بالشخصية الفذة الأستاذ محمد احمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي في مكتبه بقصر عابدين قبل «التشرف» بمقابلة فاروق لكي أتسلم منه جائزة الصحافة، سألني الباشا، الذي اكتسب في جامعة اوكسفورد كل صفات الجنتلمان، واكتسب من رحلاته الاستكشافية في الصحراء كل مزايا الصبر والتأني والاصرار والعمل الدؤوب.

ـ هل أعجبتك جلسات البرلمان عندنا؟

قلت بعد تردد: لا! قال مع السخرية: ولم تعجبك المقاعد ولا الكراسي ولا الأنوار المشعة ولا منبر الرئاسة.. ولا الميكروفونات؟

قلت: لا! قال: لو قلت لي انك أعجبت بالكراسي وحدها، لصدقتك. ان الكراسي الخشبية في دار البرلمان المصري اكثر حيوية ومعرفة ووجوداً.. من الأغلبية البرلمانية التي تمثل حزب النحاس باشا، والوفد، داخل هذا البرلمان التعس! وكنت أفهم سر هذه الكراهية من رئيس ديوان فاروق تجاه البرلمان «الوفدي» الذي جاء الى الحكم على أسنة الحراب الانجليزية في يوم 4 فبراير من عام 1942! ولكن النحاس باشا، بكل تاريخه النضالي المعروف، وكل جهاده وخطاباته ومواقفه تجاه ألف قضية وألف موضوع، لم يكن يرى في الجامعة العربية، او في رجالات العرب من سوريا ولبنان والعراق والأردن، والسعودية، سوى ضيوف عرب جاءوا لكي تقوم مصر بواجبها تجاههم وتدعوهم الى حفلات العشاء والغداء.

عشاء رياض الصلح وغضب مصطفى النحاس انني أذكر ان النحاس باشا قد دعا في عام 1948 زميله السيد رياض الصلح رئيس وزراء لبنان ـ وكان متواجداً في مصر ـ الى حفل عشاء أقيم في نادي محمد علي بالقاهرة. وفي اليوم التالي ظهرت صحيفة «الأهرام» وفي احدى صفحاتها خبر الحفل المذكور ولكن بالصيغة التالية:

ـ أقيمت لدولة رياض بك الصلح حفلات تكريم يوم امس من بينها حفل عشاء أقيم لدولة الرئيس اللبناني في نادي محمد علي! وقرأ النحاس باشا نص الخبر، وامتعض جداً وركب سيارته وتوجه الى فندق سميراميس حيث كان يقيم رياض الصلح. ووصلت السيارة الى باب الفندق، وسمع الحرس ورجال البوليس ومعظم المرافقين والبوابين صوت رئيس وزراء مصر وهو يصرخ لنفسه قائلاً: ـ قال أقيمت قال؟! برضه أقيمت يا رياض بيه؟؟ مين اللي أقام الحفلة يا رياض بيه؟ يا ترى هي أقيمت وإلا أقامها النحاس باشا؟ لا! لا! لولا رفعة الباشا لما أقيمت حفلة عشاء.. يبقى لازم نصحح الخبر ونقول أقام النحاس باشا حفل عشاء لرياض الصلح.. بيه! وهنا كان النحاس باشا قد وصل الى داخل الفندق حيث وجد رياض الصلح في استقباله، فصافحه واحتضنه وطبع القبلات على وجهه وهو يسأله معاتباً:

ـ لازم نشرح ونعلن عن «حقيقة» حفل العشاء اللي صحف النهارده بتقول انها «أقيمت».. يعني تبقى مجهولة.. يعني أقيمت من شخص مجهول. لازم! نقول انه اللي أقامها هو النحاس باشا.. بالذات، وإلا ايه يا رياض بيه.. كده والا ايه؟

وبادر رياض الصلح الى ترطيب الجو مع الوعد بأن يبادر شخصياً الى تصحيح خبر الحفلة في جميع الصحف المصرية وهو يقول ضاحكاً:

ـ حقك عليّ يا رفعة الباشا! ان خبراً عابراً عن حفل عشاء، لا يحتاج الى هذه الزوبعة لولا ان النظرة الرسمية الشاملة من رئيس وزراء مصر الى رئيس وزراء لبنان لم تكن لتتعدى الحرص على ظهور خبر صحفي منشور في مكان «بارز» عن تكريم زعيم مصري لضيف لبناني فوق أرض القاهرة! وفيما عدا ذلك لا شيء! والا ايه يا رفعة الباشا؟

كان رفعة الباشا ـ حمداً لله ـ آية في الصراحة وخفة الدم! وعندما دعاني للغداء في منزله بحي «جاردن سيتي»، وأرادت حرمه السيدة زينب الوكيل ان تحدثه عني اثناء سنوات اقامتي في مصر، إذ به يقطع عليها الحديث ويقول لها.. ولي:

ـ انت حتعرفيني عليه؟ لا.. لا! انا أعرفه كويس.. أعرفه من زمان.. من أيام ما كان بيشتغل في «أخبار اليوم» وبيشتمني مع مصطفى وعلي أمين! ثم سألني وهو يصرخ:

ـ كلامي صح وإلا ايه يا ناصر بيه؟

قلت ضاحكاً:

ـ نص صح.. ونص ايه، يا رفعة الباشا! ولكن الباشا لم يقتنع بالسكوت حيث مضى يستمطر اللعنات فوق رأس «اولاد امين».. ويقول: دول ناس «ضللوني» لحساب الملك فاروق، واعداء حزب الوفد المصري! ما علينا..

فقد انتهت مأساة ـ او جريمة ـ حرب فلسطين. ورأى الناس في القاهرة الاستقبال «النكتة» الذي أعده الملك فاروق لأبطال «الفالوجة» وأبطال غزة وأبطال «اسدود» وعلى رأسهم الضبع الأسود والضبع الأبيض والضبع الذي بلا لون! ورأيت انواعاً من المهازل اليومية التي لم يكن في وسعي ان أذكرها او اكتب عنها لئلا يتهمني الناس بتحطيم المعنويات وخدمة الاستعمار ونشر الاشاعات الكاذبة! ولكنني تجرأت وكتبت في «آخر ساعة» ـ وكان الأستاذ محمد التابعي ما زال صاحبها ـ مقالاً بعنوان: «أنا اشكو مصر للمصريين»! ثم أردفته بمقال آخر، كان صديقي الراحل «احسان عبد القدوس» قد طلبه مني للنشر في مجلة «روز اليوسف» التي استضافت قبلي شباباً فلسطينيين من الطامحين في العمل الصحفي في مصر من أمثال عميد الامام وأسد طجو وغيرهما، وكان عنوان المقال: «لا يفل الحديد إلا الحديد!».

ولكن مصطفى أمين الذي أعجبه المقال عاتبني قائلاً:

ـ اللي يكتب في «أخبار اليوم» او في «آخر ساعة»، لا يكتب في «روز اليوسف»! وهكذا مضيت أتحدث عن الأسلحة الفاسدة، وعن حقيقة الأدوار التي أدت الى ضياع بلدي.. وعن الكثير من «المحرمات»! وكانت هذه المقالات تلاقي صدى ايجابياً في معظم الأوساط السياسية والصحفية، باستثناء رجل واحد هو أستاذي الكبير انطون الجميّل رئيس تحرير «الأهرام»! لقد دعاني هذا الصحفي العملاق الى مكتبه في المساء وألقى على مسمعي محاضرة طويلة في أصول العمل الصحفي والتزام الحياد التام في سرد الخبر، والتمسك بفضيلة الترفع عن الذم والشتيمة، وقال يخاطبني في مكتبه:

«لعلك شعرت بأني لم أهنئك على مقالك في مجلة «الاثنين» والسبب انني لا أريد لك هذا الأسلوب في بدء حياتك الصحفية. يجب ان تكون وان تبقى اكبر من ان تهاجم احداً، او تسب احداً او تنال من قدر أحد. ان للناس كرامات يجب ان تصان، وقد يصفق لك البعض ان أنت ألحقت الأذى بالبعض الآخر، ولكن الأذى الذي تلحقه بنفسك يفوق كل أذى»!! ثم أضاف:

«ان اعدائي يحتارون في أمري لا بسبب قوتي ولا بسبب منصبي بل بسبب حلمي. والأقلام التي تتطاول على «الأهرام» هي الأقلام التي تمنت ان ترى اسمها منشوراً في «الأهرام» فلم تستطع. ان خصمك لا يفاجئك بالهجوم ولا يشتمك إلا لكي يرتفع اليك، ولا يحقد عليك إلا لأنه يحسدك، ولا يشتمك إلا كونه يستصغر نفسه امامك»، ثم راح يردد على مسمعي أبياتاً من الشعر، عرفت فيما بعد انها «لدعبل الخزاعي» يقول فيها:

وذي حسد ينتابني حين لا يرى مكاني ويثني صالحاً حين اسمع تورعت ان اغتابه من ورائه وما هو ان ينتابني متورع ويضحك في وجهي اذا ما لقيته ويهمزني بالغيب سراً ويلسع ملأت عليه الأرض حتى كأنما يضيق عليها رحبها حين أطلع

*** وبعد ..

لقد مضى على هذا الكلام اكثر من نصف قرن، ولكن حروفه ـ كل حروفه ـ ما زالت بالنسبة لي شيئاً كثيراً.. أو شيئاً مضيئاً! رحم الله انطون باشا الجميّل رئيس تحرير «الأهرام»...

لقد بدأت أتساءل وأسأل وأنا افتح الأبواب للخروج الى الدنيا الواسعة:

ـ ترى هل تبقى خطواتي في مصر، كلها، صحافة أو أدب او سياسة؟! والى متى؟ وماذا بعد؟

(يتبع)