أزمة الصحافة المصرية من منظور مختلف

TT

كنت في زيارة لمصر وحال وصولي وجدت مجتمعا غارقا في حوار حول صحف الاثارة والصحف الصفراء وقضية جريدة «النبأ» والصور الفاضحة للقس «المشلوح»، حيث اجتمع المجلس الاعلى للصحافة واتخذ قرارا باغلاق الجريدة.

ورغم اهمية الموضوع في حينه الا انني حاولت ان امسك نفسي من الدخول في حوار عن امر لم تتضح ابعاده بعد، فقد اختلط الامر عند الناس بين موضوع الاثارة والجنس كوسيلة لتوزيع الصحف، واقحام المجال السياسي بموضوع الاقباط في مصر، رغم بعد الامر عن تلك القضية. ولذلك قررت كشاهد عيان على هذه الاحداث ان اقدم لقارئ «الشرق الأوسط» مجموعة ملاحظات عما شاهدته في مصر المحروسة، وبالتحديد ما يخص موضوع صحيفة «النبأ» والقس المشلوح وازمة الاعلام المصري بشكل عام والصحافة المكتوبة بشكل خاص.

ما حدث من صحيفة امر يعد بداية تيار وليس نهايته، بمعنى ان لجوء الصحف الى الاثارة والجنس كوسيلة لزيادة التوزيع في طريقه الى الازدياد وليس النقصان رغم اغلاق صحيفة «النبأ». والامر هنا لا يتعلق بموضوع القس المشلوح او موضوع الاقباط في مصر، بقدر ما هو متعلق بازمة للصحافة المكتوبة في مصر. ولذلك اسبابه الكثيرة ولكن دعني اعدد قليلا من الاسباب الاولية والتي اود ان اشارككم فيها الرأي. السبب الاول يرجع الى ان الصحف المصرية بعد فترة الثورة اتخذت منحى مختلفا من حيث التطور المهني، فبدلا من البناء على صحافة ما قبل الثورة والتي كانت تهتم باخبار الاقليم وتحليل احداثه، انتقلت الى صحافة التعبئة الجماهيرية التي تحاول المشاركة في بناء دولة ما بعد الثورة واتجهت الى الاسلوب الخطابي، فكثرت المقالات والخطب على حساب الخبر والتحليل. في الوقت الذي بقيت فيه الصحف المصرية متمسكة بخطابيتها انتقل الانسان المصري وتواصل مع العالم من حوله تدريجيا ليتجاوز اعلامه المحلي الى آفاق جديدة بصورة هائلة في السنوات القليلة الماضية نتيجة لانتشار الفضائيات والكومبيوتر الذي يتيح للقارئ الاطلاع على معظم الصحف العربية والعالمية كل صباح وتكون الصحف المصرية مجرد واحدة من تلك الوجبة الاعلامية الصحافية. والتوجه المصري الى الصحف الاجنبية والخارج للحصول على المعلومة الصحيحة ناتج عن ازمة ثقة بين الاعلام المصري وجمهوره.

بدأت ازمة الثقة هذه في عام 1967 عندما اعلن احمد سعيد للمصريين ان طائرات اسرائيل تتساقط كما الذباب، ليصحى المصريون بعد ايام ويكتشفوا صدق الاعلام الاجنبي وكذب اعلامهم ليدركوا حجم الهزيمة، التي حلت بالعرب. ورغم كل محاولات الصحف المصرية اكتساب ثقة القارئ منذ ذلك الحدث وحتى الآن، لكن فجوة الثقة رغم انها تضيق الا انها باقية.

وبقاء هذه الازمة لا تسأل عنه الصحف فقط ولكن جزءا كبيرا من ذلك يعود الى ان المجتمع المصري في طريق تواصل المعلومات ما زال مجتمع شفاهة او مجتمعا شفويا اكثر من كونه مجتمع كتابة. فاذا ارسلت جهة حكومية ما خطابا الى مواطن تطلب منه كذا وكذا، ففي معظم الاحيان يتصل المواطن عن طريق التلفون او يذهب بنفسه للتأكد من صحة ما هو مكتوب. في هذا المجتمع الذي يكون فيه التواصل المعلوماتي عن طريق المواجهة (face to face ) وعن طريق المشافهة (orality)، تأخذ الكلمة المكتوبة دورا متأخرا.

المتأمل للحالة المصرية والخطاب السائد في المجتمع الآن لا تفوته ملاحظة هيمنة الخطاب الاسلامي على لغة الشارع المصري. واللغز هو كيف طغى هذا الخطاب رغم معرفتنا بأن الاسلاميين لا يملكون صحيفة او على الاقل اذا قارنا منابرهم الاعلامية بمنابر الدولة فلا يكون هناك وجه للمقارنة. فالتلفزيون المصري تملكه الدولة وكبريات الصحف هي مشاركة بين المؤسسات الاعلامية، والدولة ممثلة في مجلس الشورى. فأين هي اوعية التواصل الاعلامي التي تنجح في حالة الاسلاميين وتفشل في حالة اعلام الدولة؟

توجد هذه القنوات الاتصالية وتلك الاوعية الاعلامية في مواقع اتصال المواجهة، او الاتصال الشخصي كالمساجد والاسواق والمقاهي الى آخر الاماكن التقليدية للاجتماع. ويتمتع هذا الاسلوب الاتصالي بمصداقية اعلى من مصداقية الصحف. حيث ترى ناقل الخبر بنفسك وتتفحص ملامحه ويمكنك ان تسأله عن مصدره الأول والثاني والثالث الامر الذي لا يتوفر في حالة الاعلام المكتوب.

والاعلام المصري المحلي وليس الرسمي ينطلق من نموذج مختلف لاثبات الصدق والثقة، هذا النموذج في الثقافة الاسلامية بشكل عام نموذج صارم اساسه الاسناد في الحديث او منهجية الاسناد في الاحاديث النبوية والتي كانت ترتكز على تواتر الحديث او ما تسميه الصحافة الغربية الحديثة تعددية المصادر. فالخبر في الصحافة الحالية في مصر هو في الغالب خبر رسمي دونما وجود مصدر آخر للمعلومة. فمثلا في حالات التحقيق في جريمة في مصر تعتمد الصحيفة على ما ينقله مراسلها لدى وزارة الداخلية، دونما اللجوء الى مصدر آخر من موقع الحدث او من رؤية اخرى لشهود عيان او خلافه، هنا تكون للمجتمع رؤية فيما يقدم اليه اعلاميا، لذا تجد المشاهد او المستمع او القارئ المصري، يقرأ خبرا في صحافته ثم يقلب في المحطات الاجنبية للتأكد من صدق الخبر.

ان ازمة المصداقية او هوة الثقة الموجودة جعلت القارئ قديما يحاول ان يقرأ ما بين السطور. اما الآن فالقارئ المصري، او على الاقل هناك شريحة كبيرة من القراء والمشاهدين المصريين، لا يقرأون ما بين السطور، ولكنهم يتجهون مباشرة الى صحف غير مصرية سواء كانت هذه الصحف عربية او غير عربية حسب اللغة التي يجيدها المواطن.

فعندما صرحت الحكومة للشركات الخاصة بحرية تملك الصحف، سرعان ما اكتشفت هذه الشركات انها لن تستطيع البقاء ان لم يكن لها مصدر دعم من الخارج لان التوزيع وحده لن يكفي لتغطية تكاليفها. بعض الصحف لجأت الى دول اخرى لتمويلها. فهناك الصحيفة التي تعيش على دعم العراق الكامل واذا ما قرأتها خيل اليك انك تقرأ صحيفة بابل لصاحبها عدي صدام حسين.

هناك صحف اخرى ومنها «النبأ» حاولت اللجوء الى وسائل اخرى لزيادة توزيعها كي تبقى في السوق فاستخدمت خليطا من الدين والجنس والجريمة او الاثارة لزيادة توزيعها وبالفعل نجحت جريدة «النبأ» في زيادة توزيعها وكذلك ارتفاع سعرها حيث بلغ سعر الصحيفة في يوم نشر قصة القس المشلوح والصور الجنسية عشرين جنيها للعدد، رغم ان سعرها الاصلي كان جنيها واحدا.

اذن الطريق امام الصحف المصرية الآن هو إما مزيد من الاثارة لكسب جمهور يتركها لصالح الفضائيات او لصالح الصحف الاجنبية، او تحاول ان تغطي احداثا تهم القارئ وتزيد من مصداقيتها. ان محاولة ردم هوة المصداقية بين الصحيفة والقارئ تحتاج الى سنوات من العمل ومن الابداع وهذا امر يبدو غير وارد في الفترة الحالية. ان الحوار حول جريدتي «النبأ» و«الشعب» المغلقتين، هو ضلال للطريق، وفقدان للهدف، ان الحوار الحقيقي في مصر يجب ألا يكون عن الصحف المغلقة، ولكنه يجب ان يكون عن الصحف المفتوحة. واول هذه الاسئلة لماذا فشلت الصحف المفتوحة في الطغيان على الصحف المغلقة وازاحتها عن السوق؟ أما ان تحتاج الصحف الاخرى الى قرارات الدولة لازاحة المنافس فتلك ليست بصحافة محترفة.

في رأيي، ورغم كل شيء، ان الصحافة المصرية تتمتع بهامش من الحرية في عهد مبارك لم يسبق له مثيل، ولكن كيف فشلت الصحافة المصرية في هذا الجو من الحرية ان تطور من نفسها مهنيا، وكيف خسرت جمهورها، فهذا سؤال يخص الصحافة والصحافيين ولا يخص الدولة. (وللحديث بقية)

* استاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون