مأساة المجاهدين العرب تريد حلا

TT

لا يستطيع المرء أن يصدق ذلك المصير المفجع الذي انتهى إليه أمر المجاهدين العرب في البوسنة، وهم المهددون الآن بالطرد خارج البلاد، حيث اصبحت مشكلة أكثرهم، بعد ان عانوا من التشويه والملاحقة، كيف يدبر الواحد منهم قيمة بطاقة سفر الى الخارج، وأين يجد ملاذاً يقبله ويأويه هو وأهله وأطفاله، هل هذا معقول؟

هل يعقل ان يذهب هؤلاء الى البوسنة تلبية لنداء الجهاد، وسعياً وراء الشهادة، ويبلوا هناك ذلك البلاء العظيم الذي اسهم ـ الى جانب صمود الشعب البوسني واصراره على الدفاع عن أرضه ووجوده ـ في صد العدوان الصربي وافشال مخطط مسح البوسنة من الخارطة الأوروبية.. هل يعقل ان يذهب هؤلاء بتلك الدوافع والغايات النبيلة، ثم تدور دورة الزمن، وينتهي بهم الحال تلك النهاية البائسة، ثم يتركهم العالم العربي والاسلامي نهباً للضياع والتشرد.

لقد صدمني تقرير نشرته «الشرق الأوسط» في 7/30، وذكر ان اعداداً كبيرة من العرب والمسلمين الذين كانوا يوماً ما ـ في ما بين عامي 92 و95 ـ ضمن عناصر الكتيبة العربية المقاتلة ضد الصرب والكروات، يعتزمون مغادرة البلاد التي استشهد بعضهم على أرضها، بسبب الاجراءات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة ضدهم، نتيجة للضغوط الدولية القوية، والحملات الاعلامية الصربية التي استهدفت تشويههم وطالبت بطردهم من البلاد بعد سحب الجنسية البوسنية التي منحتها حكومة سراييفو لهم في السابق، تقديراً لاسهاماتهم اثناء الحرب، خصوصاً ان بعضهم تزوج من بوسنيات واستقر هناك، معتبراً البوسنة وطناً جديداً لهم، شجعهم على ذلك في الأغلب ان بعض الاقطار العربية اعتبرتهم «ارهابيين»، وسعت الى ملاحقتهم بمختلف الوسائل.

أضاف التقرير ان عدداً كبيراً من المجاهدين العرب يعيشون في ظروف اقتصادية صعبة، ويبحثون عن مال يدبرون به ترتيبات سفرهم الى الخارج، ومن هؤلاء من لا يعرف أين سيذهب، وليس أمام هؤلاء إلا التعامل مع عصابات التهريب عبر الحدود، الأمر الذي يضيف إليهم أعباء مالية أكبر تفوق بكثير طاقتهم المتواضعة.

وحسبما نقل التقرير عن مصدر بوسني مطلع، فان الحكومة الجديدة في سراييفو لم تكن لديها مشاكل مع اولئك العرب، ولكن ضغوطاً خارجية خيرتها بين بعض عشرات أو مئات العرب، وبين أربعة ملايين ونصف المليون من الشعب البوسني، وان الحكومة لم تجد بداً من التضحية بالأفراد العرب، مقابل احتفاظها بعلاقاتها الدولية.

ان الجيل الذي عاصر سنوات الحرب من البوسنيين يعرفون جيداً ان المجاهدين العرب كانوا في طليعة الفدائيين الابطال الذين يكلفون بالمهام الصعبة، ومنهم من كان يقف في الصف الأول ويلقي بنفسه وسط القوى الصربية، يثير فيهم الفزع، وينزع الخوف والرهبة من نفوس البوسنويين، ذلك ان بعض المقاتلين البوسنويين كانت قد أثرت فيهم الفظائع التي تعمد الصرب ارتكابها لتخويفهم، فكانوا يترددون في اقتحام حصونهم، الأمر الذي دفع العرب الى محاولة اثبات خطأ ترددهم، ومحاولة اقناعهم بأن الصرب ليسوا بالقوة التي يتوهمون، وانهم قابلون للانكسار والهزيمة، ولجأ العرب في ذلك الى وسائل عدة، كان من بينها انهم كانوا يأخذون الشبان البوسنويين الى المواقع التي يتراجع فيها الصرب وتنكسر فيها شوكتهم، لكي يروا بأعينهم هزيمتهم وقتلاهم وجرحاهم، وبهذا الاسلوب فانهم نجحوا في رفع معنوياتهم وتشجيعهم على منازلة الصرب وتحدي ارادتهم.

غير ان قوى أربعة مارست ضغوطاً شديدة للتخلص من اولئك العرب، أولها الصرب أنفسهم الذين لم ينسوا دورهم ووجدوا في استمرار اولئك المجاهدين تحدياً لهم، ومن ثم فقد ألحوا في ابعادهم تصفية للحساب معهم. الدول الاوروبية كانت الثانية، فهي شديدة الحرص على تنقية القارة من كل وجود للمجاهدين العرب، حيث اعتبروا ذلك الوجود بمثابة زرع لبذور الإرهاب المزعوم في التربة الأوروبية. أما الجهة الثالثة فهي الولايات المتحدة، التي اعتبرت ان مصالحها مهددة من جانب ما يسمونه بالإرهاب الاسلامي طول الوقت. اخيرا فان بعض النظم العربية انضمت الى قوى الضغط والتخويف، لانها بعدما صنفت المجاهدين في مربع الإرهابيين، سعت الى ملاحقتهم في مكانهم، ومنها ما مارس تلك الضغوط استجابة للضغوط الاميركية، خاصة في ظل تنامي النفوذ الاميركي في المنطقة العربية.

يشار في هذا الصدد الى ان وزيرة الخارجية الاميركية السابقة مادلين اولبرايت كانت قد زارت البوسنة في شهر مارس (آذار) من العام الماضي، وامتنعت عن الالتقاء بأعضاء الحكومة، في حين أجرت اتصالاتها مع رموز المعارضة، في رسالة فهمت بأنها انذار لحكومة سراييفو بأن واشنطن لن تجري اتصالات طبيعية معها ما لم تحسم أمرها إزاء المجاهدين العرب وتطردهم خارج البلاد. ويبدو انه في ظل الوضع السياسي الهش في البلقان، فان رسالة من ذلك القبيل لم تكن سراييفو على استعداد لتجاهلها، ولا اعرف ما اذا كان موقفها سيكون افضل أم لا، لو ان موقف الدول العربية والاسلامية من اولئك المجاهدين كان افضل مما هو عليه الآن.

حسب تقرير «الشرق الأوسط» فان 400 ألف أجنبي منحوا الجنسية البوسنية خلال السنوات العشر الماضية، وليس كل اولئك عربا بطبيعة الحال، وإنما منهم اعداد غير قليلة من الكروات والصرب والبوشناق. وذكر التقرير ان سفير البوسنة والهرسك لدى اليابان من أصل «كيني». وكان الكروات قد رشحوه ليكون سفيراً هناك، وتم منحه الجنسية البوسنية. العرب كانوا ضمن هؤلاء حيث منحت الجنسية لاعداد منهم ممن استوفوا الشروط القانونية، سواء بالمكوث فترة طويلة داخل البوسنة أو بالزواج من بوسنيات.

لقد تقدم بعض النواب بطلب الى البرلمان يستهدف سحب الجنسية من آلاف الاشخاص، والعرب في المقدمة منهم، ومختلف الشواهد تدل على ان العرب هم المقصودون من العملية كلها، وان الكلام عن فوضى منح الجنسية، والدعوة الى اعادة النظر في أوضاع الذين تمت اجازتهم كمواطنين بوسنيين، ما هو إلا غطاء لاخفاء الهدف الحقيقي، واضفاء نوع من الشرعية والسياق المقبول لاستئصال من تبقى من المجاهدين العرب، وانهاء وجودهم في قلب أوروبا.

لست أظن اننا بحاجة الى اثبات ذلك الافتراض، فطرد المجاهدين العرب من البوسنة وألبانيا وملاحقة كل من اشتبه في انتسابه الى الجهاد في دول آسيا الوسطى أو الشيشان أمر معلوم للكافة، واخباره مشهوة في مختلف وسائل الاعلام، وفي الوقت نفسه تم غض الطرف عن المتطوعين الروس واليونانيين والمرتزقة البلغار الذين استعان بهم الصرب في حملتهم على مسلمي البوسنة.

علي صعيد آخر، فليس سراً ان كلمة الجهاد، وكل مشتقاتها، أصبحت الآن تهمة، ليس في العالم الغربي وحده، وإنما في العالم العربي أيضاً، حتى اننا لا نبالغ اذا قلنا ان الاتفاق منعقد صراحة أو ضمناً بين مختلف الاطراف الدولية والاقليمية، على إلغاء الكلمة من قاموس الخطاب، واخراج الجهاد من منظومة القيم السائدة، حيث يتحول من قيمة عليا ينشدها المؤمنون، الى جريمة يلاحق بسببها كل من تسول له نفسه اقترافها. وملاحقة المجاهدين وتلبيسهم مختلف التهم واستئصالهم من الخرائط الاجتماعية والسياسية جزء من ذلك الاتفاق الذي نزعمه.

لست في وارد تنزيه بعض المنسوبين الى الجهاد عن الخطأ، وليس عندي أي دفاع عن الذين أساءوا الى الجهاد ووضعوه في غير موضعه، ولا اتردد في ادانة مسلك هؤلاء وتأييد محاسبتهم على اخطائهم، لكن تحفظي الاساسي ينصب على تعميم تلك النظرة على الكافة، وادانة كل من ذهب الى الجهاد حتى وان ابتغى من وراء ذلك وجه الله سبحانه وتعالى، واذهب الى ان تجريم هؤلاء يعد خطيئة تاريخية كبرى، لن تغفر لنا في الدنيا فضلا عن الآخرة.

المدهش ان ذلك يحدث في وقت ادرك فيه الجميع انه لا سبيل للدفاع عن كرامة الأمة واستردادها لحقوقها المهدورة إلا باحياء قيمة الجهاد والدعوة إليه، ووضع تلك القيمة موضعها الصحيح وضد اعداء الأمة الحقيقيين والاستراتيجيين. وما يحدث في فلسطين الآن خير شاهد على ذلك، حيث اثبتت التجربة ان الجهاد هو طوق النجاة وهو خط الدفاع الأول والأخير عن هذه الأمة، في مواجهة العدوان الاسرائيلي الوحشي وغير الانساني.

والمقارنة هنا لا تخلو من مغزى ودلالة، ان يطرد المجاهدون ويشردون من البوسنة، بينما تحتاج اليهم الساحة في فلسطين وتناديهم، ولعل هذا التزامن يلفت نظرنا الى بعد خفي في المسألة، ذلك اننا لا نستبعد ان يكون الهدف من طرد بقايا المجاهدين العرب في البوسنة هو إبعاد هؤلاء وتشريدهم حتى لا يكونوا مصدر خطر على المصالح الاميركية والاسرائيلية في أوروبا، وحتى لا يلتحقوا باخوانهم في فلسطين، اذا اقتضى الأمر ذلك (ذكرت «الشرق الأوسط» لاحقاً ان عناصر من «حزب الله» اجرت اتصالا مع اولئك المجاهدين وعرضت عليهم الانتقال الى الجنوب اللبناني).

واذا كانت حكومة اسرائيل قد فتحت مراكز لتطوع اليهود في أوروبا واميركا، تحسباً لاحتمالات المستقبل، فلماذا لا يكون جهد تصفية المجاهدين واستئصالهم عملاً متمماً للمخطط الاسرائيلي، يتحسب بدوره للمستقبل.

أحد الذين تحدث إليهم مراسل «الشرق الأوسط» في سراييفو اثار هذه النقطة التي ذكرتها تواً، فقد نقل التقرير عن شخص باسم أبو سعد قوله ان ما يجري هنا (في البوسنة) له علاقة بما يجري في فلسطين.. اذ الخوف كل الخوف ان تنتقل المعركة من داخل فلسطين الى خارجها.

ان السؤال الذي لا بد ان يطرح نفسه في هذه المناسبة هو: لماذا لا تفتح الاقطار العربية أبوابها لابنائها من اولئك المجاهدين ممن لم يتورطوا في أعمال مسلحة ضد أنظمة بلادهم، بدلا من أن تتركهم يهيمون في انحاء الأرض ويتعرضون للتشرد والضياع، وربما دفعهم اليأس الى التورط في ما هو أسوأ وأبعد؟

ان الذين ذهبوا الى نصرة اخوانهم المسلمين، وعرضوا أنفسهم للموت وان لم يفوزوا بالشهادة، يمثلون ثروة لهذه الأمة ينبغي ان تعتز بها وتحافظ عليها، وتدخرها، وتوظفها لصالح المستقبل الذي تتعدد فيه جبهات الجهاد، من جهاد البناء الى جهاد العدو. ومن نكد الزمن اننا بدلا من ان نحتفي بهم ونكرمهم، اصبحنا لا نطمح في أكثر من ان نفتح صدورنا وأوطاننا لهم لكي يعيشوا بين أهليهم في سلام وأمان.

ان الذين طردوهم ليسوا أسوأ كثيراً من الذين اتهموهم ولاحقوهم، ولا نستطيع ان نؤاخذ الاميركان الذين ضغطوا، لكننا ينبغي ان نؤاخذ الذين استجابوا للضغط هنا أكثر من أقرانهم هناك.