ذكريات حلوة مع أميرة المجلات ابتلعتها «الأحرف الضوئية»‍‍!

TT

كطعنة خنجرٍ في القلب، فقد جاء الخبر مفاجئاً، وكان على الخط الآخر صوت أيقظني من غفوة كنت أهرب إليها من زكام شديد الوطأة، وعرفت بعد أن تغلبت على أوجاعي وطردت النوم بصعوبة أن الأمر يتعلق بمجلة «المجلة» التي رافقتها طفلة جميلة في نهايات عقد سبعينات القرن الماضي إلى أن شبَّت وأصبحت أميرة المجلات السياسية العربية وفرضت نفسها على صانعي القرار في الوطن العربي في فترة كانت مضطربة، شهدت أول اجتياح إسرائيلي لعاصمة عربية هي بيروت.

عندما أخبرني المتحدث على الجانب الآخر من الهاتف أن «المجلة» ستغادر عالم الحبر والأوراق وستتحول إلى مجلة «إلكترونية» كادت دمعة تنهمر من عيني، واستعرضت ربما في أقل من دقيقة شريطاً طويلا، وتذكرت أحداثاً أبعدتها عوامل الزمان ورأيت صوراً تلاحقت في مخيلتي بسرعة البرق في مقدمتها صورة هشام الحافظ وعوني بشير ونديم ناصر (رحمهم الله)، ثم صورة عبد الكريم أبو النصر وعماد الدين أديب وعثمان العمير وعبد الرحمن الراشد، وأيضاً نورا فاخوري وإلياس المر وإلياس حرفوش ومصطفى الزين ومحمود كحيل.. والطيب صالح الذي لم نصدِّق بعد أنه رحل وترك خلفه كل هذه الإبداعات العظيمة الخالدة.

حَمَلَ غلاف أول عدد صورة رجل «مارينز» أميركي بخوذته وبوجهه المـُموّهُ بخطوط سوداء، وكانت خلفية الصورة صحراء عربية كابِيَّة اللون ومقاتلات أميركية تشبه طيور أسطورية جارحة وكان العنوان الذي اختاره عبد الكريم أبو النصر بحرفيته الراقية هو: «الأميركيون قادمون» لقد كان هذا في نهايات عقد السبعينات من القرن الماضي وكانت هذه نبوءة عبقرية لما حدث بعد أكثر من ثلاثة عقود حيث تجسدت هذه النبوءة إلى حقيقة لا تزال تفقأ عيون الذين لم يصدقوا أن هذا الذي حصل سيحصل، وأن الجيوش الأميركية ستحتل العراق وبغداد بالفعل.

كنت قبل الانضمام إلى «المجلة» وأعيش معها أحلى أيام حياتي الصحفية الطويلة بالفعل، أعمل في صحيفة «السفير» اللبنانية، وأتزامل مع مجموعة من خيرة الخيرة من بينهم باسم السبع وراشد فايد وبلال الحسن و«أبو عيسى الصرداوي» وسعد محيو ومحمد مشموشي وناجي العلي. وكنت بعد أن قبلت دعوة الأستاذ المبدع الكبير عبد الكريم أبو النصر، قد تعرفت عن قرب على بول شاوول الذي هو أحد أكبر رموز الصحافة الأدبية. كانت أوضاع بيروت في غاية الصعوبة في ذلك الحين، فالحرب الأهلية كانت قد دخلت كل حيٍّ وكل شارع وكل بيت في هذه المدينة الجميلة التي رسمها ناجي العلي بريشته المبدعة المقاتلة في أول أيام الاحتلال الإسرائيلي فتاة جميلة بيدها وردة تقربها من أنفها وقد طفرت من عينها دمعة لؤلئية احتلت صورتها الصفحة الأولى من جريدة «السفير» التي هي الوحيدة التي لم تتوقف ولو ليوم واحد كل أيام الاحتلال والحصار وخلال قصف وحشيٍّ وهمجي استمر لنحو ثلاثة شهور متتالية. مما كتبته إلى «المجلة» وتمكنت من إرساله بشق الأنفس، حيث لم يكن جهاز «الفاكس» قد عُـرف بعد، وحيث الخــدمات البريدية قد توقفت تماماً، شهادة تناقلتها بعض كبريات الصحف العالمية: فقد كان ياسر عرفات (أبوعمار) رحمه الله قد اختار بناية يحتلها مهجرون مــن منطقة «ضبْية» تقابل مبنى وزارة الإعلام اللبنانية في منطقة الصنائع ليزاول نشاطه العسكري من شقة في هذه العمارة كان يعتقد أن الإسرائيليين لم يعرفوا بتردده عليها بعد. كانت الجيوش الإسرائيلية الزاحفة من الجنوب والتي قد قامت بإنزال على شاطئ الأوزاعي تزحف نحو مطار بيروت، وكان عدد من القادة اللبنانيين من بينهم جورج حاوي رحمه الله يتحلقون حول (أبوعمار) في مكتبه الصغير في هذه العمارة الآنفة الذكر.. وفجأة دخل محسن إبراهيم صاخباً مازحاً كعادته، وقال وهو يطلق ضحكة مدوية مفرقعة: «لقد وجدتها يا أبا عمار» ورفع عرفات عينيه عن تقرير عسكري، وقال وهو يقهقهُ: «هَاتْ.. خير إن شاء الله».

قال محسن إبراهيم: لقد قرأت في سِفْرِ «حبْقوق» نبوءة تقول إن الجيوش اليهودية ستغزو لبنان، وأنها ستقتل وستدمِّر وستغوص في الدماء حتى الركب ولكنها ستخرج مهزومة تـُجرجْرُ أذيال الخيبة».. ورد جورج حاوي بروحيته الطيبة المعروفة قائلا وبسرعة: ألـَمْ يأتِ في هذا السِّفْر أن اندحار الغزو الإسرائيلي على يد الأخ القائد العام (أبوعمار) حفظه الله؟!. في تلك الفترة الصحفية المعطاءة والغنية جعلت «المجلة» ترافق أبو عمار في رحلة الخروج من بيروت التي تمت بسفينة إيطالية رافقتها طراداتٌ حربية أميركية وفرنسية ويونانية، حيث توقف أولا في أثينا ثم انتقل جوَّاً إلى تونس ومنها إلى «فاس» في المغرب، إذْ انعقدت قمتها الثانية التي خرجت بذلك البيان الشهير الذي استند إلى مبادرة الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله المعروف والذي أسس لعملية السلام التي توقفت في مؤتمر مدريد والمستمرة حتى الآن.

بعد الخروج من بيروت عدت بـ«المجلة» مرة أخرى إلى لبنان، وكان ذلك بعد نحو خمسة شهور حيث رافقت سفير فلسطين الحالي بالقاهرة نبيل عمرو في رحلة بحرية في سفينة صغيرة انطلقت من ميناء ليماسول القبرصي إلى طرابلس وسط أنواءٍ سيئة وأمواج عاتية، وكان أهم ما نشرته أميرة المجلات العربية التي ستبتلع ذكرياتي الجميلة معها الأحرف المضيئة اللعينة بعد عودتي هو حلقات من ذكريات القائد الفلسطيني الكبير خليل الوزير (أبوجهاد) الذي استشهد بعد نحو خمسة أعوام، ولم يترك وراءه من سجلات سيرته الحافلة والغنية التي امتدت على مدى أكثر من ثلاثين عاماً إلا هذه الحلقات التي انتزعتها منه انتزاعا عندما كان ينشغل بحرب «الأشقاء» التي شنوها على المقاومة الفلسطينية، وكان يتنقل في اليوم الواحد مرَّات عدة بين مخيمي البداوي ونهر البارد في الشمال اللبناني. كانت «المجلة» قد انفردت بأضخم «خبطة» صحفية عندما أرسلتني إلى جزيرة «مالطا» لألتَّقط خفايا عملية اختطاف طائرة ركاب مصرية من مطار أثينا في اليونان إلى مطار «فاليتا» في هذه الجزيرة، وعدت بأشرطة تسجيلات أثار نشر بعض ما احتوته عاصفة احتجاجات استمرت لفتـرة طويلة.

وكانت «المجلة»، هذه التي اختطفت حياتها الأحرف الضوئية، قد انفردت بسلسلة حلقات عن بطولات الفدائية الفلسطينية زكية شموط التي كانت سباقة في تنفيذ أهم العمليات البطولية ضد إسرائيل بعد احتلال عام 1967 والتي كان زوجها أول من التحق بـ«الثورة» الوليدة من أهل الأرض المحتلة منذ العام 1948 وقد سجنت بعد إلقاء القبض عليها مع طفلتها ابنة العام الواحد في زنزانة تجاور زنزانة زوجها الذي لم تره إلا بعد الخروج بعملية تبادل عندما التقيا في الجزائر بعد نحو عشرين عاماً.

من إنجاز إلى إنجاز آخر أهم من الذي سبقهُ، وكنت قد عدت من إحدى زياراتي المتكررة إلى تونس في فترة التحولات المتلاحقة السريعة في هذا البلد العربي بتحقيق استندت فيه إلى معلومات أبلغتني بها الماجدة وسيلة بن عمار زوجة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، رحمها الله، تحدثت عن أن القادم إلى الحكم هو الشاب الصاعد كالسهم المنطلق من قوس مشدودة الوتر علي زين العابدين الذي كان وزيراً للداخلية، وأن رئيس الوزراء محمد مزالي لن يكون رئيساً على الإطلاق.. وحقيقة أن هذا التحقيق سبب لـ«المجلة» صداعاً مؤلماً وسبب لي مشكلة ما كان من الممكن أن تنتهي على خير لولا وقفة رجولية كان قد وقفها رئيس التحرير عثمان العمير.

لقد كانت رحلتي الطويلة مع «المجلة» أكثر رحلاتي مع الصحافة إمتاعاً وعطاءً، وإنني الآن أتمنى لتجربة «الأحرف الضوئية» الجديدة النجاح.