تغيير الدفة ناحية اليسار

TT

أحيانا يتضح أنه يمكن الوثوق في كلمات وتعهدات الساسة. قبل أكثر من عام مضى، وفي أثناء الحملة الانتخابية للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية، قال باراك أوباما لصحيفة «رينو غازيت جورنال» إن «رونالد ريغان غيّر مسار أميركا بطريقة لم يفعلها ريتشارد نيكسون ولا بيل كلينتون»، وأضاف أن ريغان «وضعنا على طريق مختلف تماما، لأن الدولة كانت مستعدة لذلك». وكان المعنى الضمني لتلك الكلمات أنه إذا ما تم انتخاب أوباما فإنه لن يكون أقل طموحا.

ولكن قبل هذا، ودون الإشارة إلى ريغان، كان هدف أوباما أكبر بكثير مما يمكن لغالبيتنا تصوره. وفي مقابلة أُجريت معه قبل عامين أتذكّر أنني صُدمت من ثقته أن الوقت الحالي يتطلب قدرا من الجرأة - وهي إحدى كلماته المفضلة - وأن بإمكانه تقديم هذا على نحو استثنائي. إن أوباما عازم على تحويل مشهدنا السياسي نحو اليسار، وإعادة رسم حدود سياستنا وتوسيع حدود الإمكان. وهو يشعر أن الدولة تتحرك فعليا في الاتجاه الذي يريد، وأنها متجهة نحو زعامته السياسية.

ويبدو إلى الآن أن الجمهوريين غافلون عما يحدث. وبعد أن أدلى أوباما بخطابه المسائي أمام الكونغرس أخيرا بدأ بوبي غندال، حاكم لويزانا، رده بنوع من التملق والتأييد الملحوظ، عبر تهنئته للرئيس لكونه أول رئيس أميركي من أصل إفريقي يتولى هذا المنصب، كما لو أننا لم نلحظ هذا! ومضى غندال في عرض برنامج مفصل كان من شأنه أن يكون ابتكاريا لو كنا في عام 1978، مشيرا فيه إلى ضرائب أقل وحكومة أصغر، والتلويح بالعلم وما شابه ذلك. وبعد يومين قال مايك هوكابي، المرشح السابق للرئاسة، أمام مؤتمر العمل السياسي المحافظ السنوي: «ما زلت مقتنعا بأن أميركا ترغب في أن تميل إلينا»، كما لو كان يعيش في لحظة خاصة مع سالي فيلد.

ولم يكن خطاب أوباما أكثر من إعداد للعدة وتهيئة للساحة، وتمثل الحدث الرئيسي لهذا الأسبوع. وكان الحدث الرئيسي خلال الأسبوع الأكثر أهمية منذ تولي أوباما للرئاسة فعليا هو موازنته التي اقترحها يوم الخميس، والبالغ قوامها 3,6 تريليون دولار. ويعتبر هذا المبلغ أضخم من النعوت التي استخدمها المعلقون طوال العام، ومنها: غير المسبوقة، والمذهلة، والمثيرة. ومع ذلك ففي النهاية ستعني الأرقام القليل بالنسبة للتاريخ، مقارنة بالطريقة التي تعيد بها الموازنة الخاصة بأوباما تنظيم أولويات البلاد والتغيرات في العلاقة التي بين الأميركيين وحكومتهم.

وبقطع الهبات السخية التي منحها ريغان، وبوش وإدارته، للأثرياء من الأميركيين، يعيد أوباما طرح مبدأ فرض الضرائب التصاعدية، وبموجبها يتعين على الأثرياء- من القادرين على تحمل هذه الأعباء - دفع نسبة أكبر من دخلهم في صورة ضرائب، وبالتالي يمكن للحكومة تحسين حياة من ليسوا أغنياء. وأعتقد أن هذا ما حذر منه جون ماكين عندما هاجم أوباما خلال حملته الانتخابية على أنه من الذين يؤيدون فكرة أن الدولة مسؤولة عن رفاهية المواطنين. ويبرر الاندفاع الفوري لجبهة راش ليمبوغ في الحزب الجمهوري إلى الحديث كثيرا عن الاشتراكية المتفشية.

ولكن، هل يتذكر أحد أن أحد المؤيدين الأوائل لمبدأ مسؤولية الدولة عن رفاهية المواطنين كان تيدي روزفلت، البطل المفترض لماكين؟ وأتساءل إذا ما كان بالإمكان طباعة تقييم راف رايدرز للجمهوريين هذه الأيام - ممن يدافعون عمن يربحون أكثر من 250,000 دولار في العام، ويطالبون أي شخص آخر بالتنحي جانبا - في صحيفة خاصة بالحزب.

ويفترض أوباما نوعا من الدعم الميزاني الذي يتعين على كاثلين سيبيليوس - المرشحة بالأمس لشغل منصب وزيرة الخدمات الصحية والبشرية - أن تحبه بكل تأكيد، حيث سيتم إنفاق 634 مليار دولار «كدفعة مقدمة» على مدار السنوات العشر المقبلة لإصلاح نظام الرعاية الصحية، وهذا بغرض التحرك بعد ذلك نحو التغطية الشاملة. والشيء الهام هنا لا يتمثل في هذا الرقم الضخم، وإنما في توسيع المسؤولية الحكومية تجاه الرعاية الصحية للمواطنين لما بعد كبار السن والشباب والفقراء. وبالطبع ثارت حفيظة المعلقين المحافظين بأن أوباما سيمضي على حد علمهم تجاه تقديم خطة مدعمة حكوميا، من المحتمل أن يفضل الأميركيون بموجبها مزيجا من التغطية التأمينية الخاصة التي يتعين عليهم حاليا أن يتبعوها.

وعبر تضمين التعليم بين أهم ثلاث أولويات بالنسبة إليه يتوسع أوباما في تعهداته الرامية إلى جعل تحسين أوضاع المدارس قضية فيدرالية، وليست قضية محلية فقط. وقد بدأ جورج بوش الابن ذلك قبل أي شخص آخر. وفي المقابل نرى أن أوباما غيّر سياسة إدارة بوش المتعلقة بالطاقة والمرتبطة في مجملها بالنفط، أما الشيء اللافت للنظر بخصوص الطاقة فيتمثل في قبوله لمسؤولية بلادنا عن لعب دورها في إبطاء أو تغيير الوضع الحالي إزاء قضية تغير المناخ العالمي.

وهناك سبب وراء بقاء تقديرات الاستحسان الخاصة بأوباما مرتفعة حتى الآن، فهو يشعر أن الأميركيين يتوقون إلى مزيد من العدالة والمحاسبة، خصوصا بعد سلسلة التجاوزات التي تهدد بتخريب اقتصادنا وتدمير الكثير من الأحلام. وهو يعلم أن الحاجة إلى الشعور بالملكية المشتركة في الدولة والعالم يقوي مبدأ الفردية الأميركية، ويعلم أيضا أن طاقات الفرص لإحداث تغيير جوهري ما زالت مفتوحة لفترة وجيزة فقط قبل أن يتم إغلاقها بشدة.

وقد يتحول تصريحه الذي ألقى به يوم السبت، والذي قال فيه: «لم آتِ إلى هنا للقيام بنفس ما كنا نقوم به، أو اتخاذ خطوات صغيرة فقط نحو الأمام»، ليكون بمثابة التصريح المبسط خلال العام الحالي.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»