.. ومن دواء الأزمة ما هو أكثر منها شرا

TT

ستنتهي الأزمة الاقتصادية الكبرى التي يعاني العالم منها أشد العناء، ستنتهي هذه الأزمة كسابقتها من أزمات بعد حين، لكن سيدفع ثمنها بشر كثير لم يتسببوا فيها، ولم يكن لهم علم بمسبباتها، فلم يسمعوا عن بنك «ليمان براذرز» إلا بعد سقوطه، ولم يتعاملوا مع أي أصول مالية سوية كانت أو فاسدة، ولم ينتهكوا قواعد للإشراف والرقابة المالية، ولم يدلسوا في تجارة الأوراق المالية بخلط الغث منها بالثمين. ولكن هذا حال دنيا الأزمات والكوارث، يشترك في تحمل تبعاتها البريء مع المذنب والفقير مع الغني.

فقد شهد القرن الماضي أزمات كبرى كتلك التي حدثت في عام 1907 في الأسواق الأمريكية، والأزمة المالية الكبرى في عام 1929 التي أعقبها الكساد الكبير، وأزمة الأسواق المالية في الاقتصادات الآسيوية في عام 1997. وكلها تسوق الدلائل والبراهين على عدم العدل في تحمل تكلفة الأزمة وتبعات الخروج منها، فقد دفع ثمنها الأكبر من تعطلوا عن العمل، وأناس كانوا على حافة الفقر فوقعوا في هاويته، وذوو مواهب وقدرات رضوا بأي عمل لسد الرمق.

ونري اليوم أطروحات ومقترحات وإجراءات لعلاج الأزمة الراهنة ستحمل شرورا كبرى إن لم يتم التصدي لها مبكرا.

أول هذه المشكلات هو تضخم عجز الموازنة العامة في عدة دول متقدمة بما يتجاوز 10% من الدخل القومي لكل دولة، من خلال برامج تحفيز للاقتصاد وإنقاذ لمؤسسات مالية واقتصادية. وإن كان من المعتاد أن يساق التحذير للدول النامية من مخاطر عجز الموازنة وآثارها الوخيمة على التضخم، وافتئاتها على حقوق الأجيال القادمة التي ستتحمل تكلفة دَين عام أكبر، وأضرارها على الائتمان الممنوح للقطاع الخاص والقطاع العائلي من خلال ما يعرف بـ«أثر المزاحمة»، فإن النصيحة اليوم للدول المتقدمة أولى، إذ سيترتب على تضخم العجز فيها «مزاحمة في التمويل على المستوى الدولي»، وسيتعذر على دول نامية أن تدبر احتياجاتها من التمويل، سواء من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر، أو الاستثمار من خلال أسواق الأوراق المالية، أو من خلال الاقتراض من الأسواق الدولية لتمويل التنمية. إذ ستتحول الفوائض القابلة للإقراض أو الاستثمار من دول نامية إلى اقتصادات متقدمة ذات شروط تفضيلية في الإقراض، تحميها ضمانات سيادية ظاهرة أو ضمنية، ويزيد هذا الأمور تعقيدا، خصوصا بعد بوادر الأزمة التي تظهر في انحسار صافي التدفقات المالية إلى الدول النامية في عام 2009 (وفقا لتقديرات معهد التمويل الدولي) تقدر بنحو 165 مليار دولار، بانخفاض يبلغ 65% عن العام الماضي، و82% عن عام 2007 الذي بلغت فيه هذه التدفقات أعلاها عند مبلغ 929 مليار دولار.

ثاني المشكلات يتمثل في هذا التهديد لحرية الاستثمار من خلال إجراءات حمائية مانعة من الاستحواذ على أصول في دول متقدمة من قبل الأجانب غير المقيمين فيها، وهو ما ظهرت نذره الأولى في العامين الماضيين في الأسواق الأوروبية والأمريكية بمنع صناديق استثمار سيادية ومؤسسات مالية واقتصادية آسيوية وعربية من شراء بعض الأسهم والأصول والشركات بدعاوي مختلفة، ولم يقلل من غلواء هذا التعنت إلا الاحتياج إلى السيولة المالية، وقدر من النصح المستحي تبنّته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للتحذير من إجراءات حمائية في مجال الاستثمار، والتأكيد على مبادئ «حرية الاستثمار»، وإنذار بأن الإجراءات الحمائية ستزكي نيرانا خامدة ستضر كافة من تطولهم سواء من دول متقدمة أو نامية.

ثالث المشكلات لا تقل وطأة، بل قد تكون أشد تأثيرا، وذلك فيما تظهره التصريحات والاقتراحات من بعض المسؤولين في دول متقدمة من إشارات لإجراءات حمائية في سبيل حركة التجارة الدولية، وكأن مصدري الدول النامية لا يكفيهم ضرر ما يسببه انهيار معدلات نمو الاقتصاد العالمي وشح التمويل المتاح للتجارة بعد أزمة الثقة ونقصان السيولة في أسواق الائتمان، لتأتي أحاديث بعض المسؤولين مبشرة باتجاهات حمائية وتدابير موجهة نحو الداخل على حساب الخارج، متمسحين بمقولة إن دافع الضرائب المسكين يتوقع أن تنفَق أمواله - التي توجّه إلى إنقاذ المؤسسات المالية الخربة - إلى داخل البلاد. دعوات يُمزج بها الحق بالباطل، لا يراد منها إلا استرضاء للبعض ممن قد تغرّه تلك الدعاوي الشعبوية - ولا أقول الشعبية - ومكاسب سياسية متواضعة قد تفرح الساعي إليها في الأمد القصير، ولكنها ستضر عموم الناس بعدها.

وحتما فإن شعوب الدول النامية سيلحق بها الضرر الأكبر، فالإجراءات الحمائية ستمنع من صادراتهم ما ستمنعه، ووراء هذه الصادرات حشود من العاملين ستهدد البطالة بعضهم، فضلا عن انخفاض الدخول للبعض الآخر. وفي ظل ما تشهده «جولة الدوحة» في مفاوضات منظمة التجارة العالمية من فشل بعد فشل، يجب أخذ هذه الإجراءات الحمائية في سبيل حركة التجارة مأخذ الجد.

رابع هذه المشكلات هو ما نجده من تصرفات تحت حُمى ضغوط الأسواق المالية وما يصيبها اليوم من هلع، لإنقاذ لمؤسسات مالية لا تستحق عناء الإنقاذ أو تكلفته من ناحية، وتركها لمؤسسات تسقط تبيّن أن في سقوطها الضرر الأكبر على النظام المالي من ناحية أخرى، بما يعكس حالة من التضارب لا تشفع لها دعاوى البراجماتية أو المرونة في اتخاذ القرار.. فللبراجماتية وللمرونة أصول أيضا تبعد بهما عن الشطط. ولا تظهر بوضوح، حتى الآن، قواعد العمل والمتابعة والرقابة والانضباط والكفاءة والمحاسبة على الأداء للمؤسسات المالية التي يجري إنقاذها، بما سيترتب عليه نتيجتان ضارتان في الأمد المنظور:

الأولى أنه بعد هدوء غلواء الأزمة ستظل هناك كيانات مالية ذات أسماء كبيرة بحكم القِدم في النشأة، ولكنها ستصبح كالمسخ من حيث التكوين والأداء، تتنازعها مصالح عامة وخاصة في أهداف عملها. وإن لم تضبط قواعد حوكمتها منذ البداية ستنتهي إلى حالة أشبه بـ«البط الكسيح»، وهو ما كانت تتندر به أوساط في دول رأسمالية على أوضاع المؤسسات الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه.

أما النتيجة الثانية فهي أن هذا السخاء في نثر الأموال لإنقاذ ما يستحق الإنقاذ وما لا يستحق سيفتح السبل أمام الاستمراء في الخطأ وتكرار مسببات الأزمة الراهنة في المستقبل.. فإذا كان هناك من سيتحمل دائما التكاليف الباهظة لسوء الإدارة وضعف الرقابة وتدني المعلومات، وباعتبار أنه لا حساب يقع على من تسبب في الأزمة، فإن الوقوع في أزمة جديدة لذات الأسباب، وبقدر محدود من الابتكار، سيكون هو الاحتمال الأكبر في المستقبل.

إن لم تعالج هذه المشكلات المتضمنة في وصفات العلاج المقترحة للأزمة الراهنة ويتم التصدي لها، ستكون من ثمار هذه الأزمة بذور لأزمات أخرى في المستقبل، وسيدفع ثمنها غير المتسبب فيها مرة أخرى، ولعل هذه المحاذير تكون محل اهتمام مجموعة العشرين واجتماعها المرتقب في لندن.

* سياسي واقتصادي مصري