لقاء الرياض.. وإشكاليات المصالحة العربية

TT

تحددت للقاء القمة المصغّرة بالرياض يوم الأربعاء، أول من أمس، الموضوعات التالية تحت عنوان «تنقية الأجواء»: الموقف من التدخلات الإيرانية في البلدان العربية، والمصالحة الفلسطينية، وتهدئة الأوضاع في لبنان. والمعروف أنّ جدالاً غير عَلَني دار بشأن القمة ولأكثر من أسبوعين، وهل تقعُ أم لا، وإذا انعقدت فهل تكونُ ثُلاثيةً أم رُباعيةً أم خُماسية. مُبرِّر «الثلاثية» والاقتصار عليها كان عدة أمور؛ أولها أنّ المشكلة في الأصل هي بين السعودية ومصر من جهة، وسورية من جهةٍ ثانية. وثانيها أنّ هذه الدول بالذات هي المعنيةُ بالقضايا في فلسطين ولبنان، وأنَّ جزءًا من المشكلات بينها هو بسبب هذه المسائل بالتحديد. وثالثها أنه سبق لهذا المثلَّث أن تكوَّن في التسعينات فخدم الوضع العربي كثيراً بعد وقائع حرب الخليج الثانية، وحصار العراق. لكنْ كان هناك من قال إنّ الكويت ينبغي أن تحضُر لأنّ المصالحة بدأت في القمة الاقتصادية التي انعقدت فيها. ورأت سورية أن قطر ينبغي أن تحضُر لأنّ القمة التي ستستكمل المصالحات وتأخذ القرارات سوف تنعقدُ فيها بعد أسبوعين. ورأى الأردنّ أنّ من حقّه الحضور لأنه معنيٌّ بالشأن الفلسطيني وبالمصالحة الفلسطينية. وانتهى الأمر بحضور أمير الكويت مع الثلاثة.

قدَّمت السعودية مبادرتَها للمصالحة في قمة الكويت، والتي تقوم على ثلاثة أُسُس: سَدّ بؤَر التوتُّر والنزاع في العالم العربي؛ وبخاصةٍ في المشرق العربي، ومواجهة أخطار العنف الإسرائيلي بالمبادرة العربية للسلام، والوصول إلى موقف موحَّد بشأن التدخُّلات الإيرانية في العالم العربي. وبؤر التوتُّر في المشرق العربي اليومَ، بل ومنذ سنوات عديدة هي: العراق ولبنان وفلسطين. ولسورية مشاركةٌ في كلٍ منها. بيد أنّ «النصيب» السوري في توترات العراق انخفض في السنتين الماضيتين، واستجدت هناك عوامل داخلية كثيرة، ثم تشابكات بين إيران والولايات المتحدة. ولذلك يتركز الجهد الآن على فلسطين ولبنان. وقد أعطت حرب غزة الأخيرة الأَولوية للنزاع الفلسطيني/ الفلسطيني، وتقومُ مصر بحكم موقعها ودورها بالجَهد الأكبر الآن في مصالحة الفلسطينيين فيما بينهم، تمهيداً لأمرين اثنين: إعادة إعمار غزة، والتفكير في مستقبل الصراع على فلسطين. ولسورية دورٌ بارزٌ في هذه المسألة، لأنّ قيادة حماس السياسية والعسكرية موجودةٌ فيها. فتستطيع سورية إن اقتنعت وأرادتْ أن تؤثّر على حماس باتجاه التصالُح والتوحُّد. وفيما يتعدّى ذلك، وإذا كانت حماس تريد أن تكونَ طرفاً في منظمة التحرير، وبالتالي في إقامة الدولة الفلسطينية؛ فالمفروضُ أن تقبل بمندرجات القرارات الدولية (242، 338)، وباتفاقية أوسلو. والمعروف أنّ سورية قابلة بالقرارات الدولية، وتريد إجلاء إسرائيل عن أرضها بهذه الوسيلة. وقد دخلت بالفعل في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل بوساطة تركية. ولذا يمكن لها لو شاءت أيضاً، أن تؤثّر على حماس وتشجعها على المشاركة الواقعية في إقامة دولة فلسطين على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، كما تنصُّ عليه أو تقتضيه القرارات الدولية. وهذا هو المنطقي والمعقول، وليس كما حدث في «قمة غزة» الشهيرة بالدوحة، عندما صارت العقبة هي المبادرة العربية للسلام أو فتح معبر رفح! فالمبادرة العربية للسلام هي الإطار أو الهدف الاستراتيجي، والذي لا يتحقق إلاّ بعد جلاء إسرائيل عن الأراضي التي احتلتْها عام 1967. يومَها قال الرئيس الأسد إنّ المبادرة ماتت، وكان يقصد مخاصمة السعودية وليس إسرائيل، لأنه ما أعلن أبداً عن توقف المفاوضات مع إسرائيل؛ بل الذي أَعلن عن ذلك أردوغان رئيس الوزراء التركي! وعلى أيّ حال؛ فإنّ الخصومة ودواعيها زالتا الآن، وهذا معنى تصريح الأسد بعد قمة الرياض الثلاثية إنّه سيسعى لإقناع حماس وحزب الله بتحرير الأرض من طريق التفاوُض! إذ المعروف أنّ المبادرة العربية للسلام هي مبادرةٌ شاملةٌ، وأعلى سقفاً من القرارات الدولية، وتتطلب لتحقيقها جهداً عربياً شاملاً، وليس العودة إلى المفاوضات المنفردة مثلما فعل المصريون والأردنيون والفلسطينيون، ويفعلُهُ الآن السوريون.

والواقعُ أنّ المشكلة الفلسطينية شديدة الهَول على الحاضر والمستقبل العربيين. والمبادرة استراتيجية وليست خطة. أمّا الخطة فتحتمل لبلوغ الهدف خياراتٍ متعدِّدة في ضوء العدوانية الإسرائيلية المستمرة، وغياب أفق الحلّ بحسب نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. فلا بُدَّ من ضغوطٍ عربيةٍ مشتركةٍ على المجتمع الدولي، والدول الكبرى- وهي الأطراف التي تحمي إسرائيل وتتسامح بشأن عدوانيتها واحتلالاتها - لكي يصبح ممكناً التفكير في طرائق التفاوُض، وطرائق إقامة الدولة بعد الجلاء الإسرائيلي عن الأراضي المحتلة. فلا استقلالية لإسرائيل خارج القرار الدولي، ولا قدرة للعرب تجاه إسرائيل، وتجاه المجتمع الدولي، بدون توحُّدٍ وجهودٍ مشتركة.

وإذا كانت سورية لا تنفردُ في الملفّ الفلسطيني؛ بل تشكّل أحد عوامل التأثير؛ فإنّها تملك نصف أَسْهُم وعوامل الاضطراب في لبنان. لديها ثلاثون عاماً من الوجود العسكري والأمني والسياسي في لبنان، ولديها السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وتأثير على المجريات داخل المخيمات، ولديها مسألة ترسيم الحدود والتي تُسهِّلُ على لبنان استرداد مزارع شبعا من إسرائيل. وأخيراً وليس آخراً لديها أساليب للتأثير على حزب الله وأنصاره. ولدينا في حواصل ومندرجات الأعوام الأربعة الماضية - منذ القرار الدولي رقم 1559- وشواهدُ على ما تستطيع سورية فعله أو عدم فعله تجاه لبنان والأمن والاستقرار فيه. وإذا كانت للخصومة المصرية مع سورية عوامل عدة منها التدخُّل السوري في لبنان؛ فإنّ السبب الرئيس لخصومة السعودية مع سورية هو تدخُّلُها في لبنان بالذات؛ وفي المسائل التي ذكرناها ومسائل أخرى. والمعروف أنّ سورية وحلفاءها منعوا ولمدة ستة أشْهُر انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية. وكانوا قد حاصروا القصر الحكومي ورئاسة الوزراء لعامٍ ونصف، وأقفلوا البرلمان لعامٍ وثمانية أَشْهُر. وما أفرجوا عن البرلمان والرئاسة، إلاّ بعد وساطةٍ فرنسيةٍ حثيثة، وتدخُّل قطري، وعلى أثر دخول حزب الله وحلفائه (حركة أمل، والحزب القومي السوري) إلى بيروت بالسلاح. وترافق مع ذلك في السنتين الصعبتين جداً حَدَث «فتح الإسلام» بمخيم نهر البارد، واستمرار الاغتيالات في صفوف السياسيين (من حركة 14 آذار)، وتصاعُد التوتر الشيعي/ السنّي.

والأجواءُ الآن أفضل بعد مبادرة الملك عبد الله للمصالحة. ثم إنّ المحكمة الدولية في حَدَث اغتيال الرئيس الحريري والسياسيين الآخرين قد قامت، وما عادت الضغوط تنفع. وتغيرت العلاقات السورية - الإيرانية. وحرب غزة أثبتت العجز العربي عن التأثير في ظلّ الانقسام. وكان الرئيس الأسد وقبل قمة الرياض بيومين قد قال لصحيفةٍ أجنبيةٍ إنه يخشى تسييس المحكمة، ويخشى على الانتخابات اللبنانية في حالة عدم التوافُق! وبذلك فقد أَوضح نقاط اهتمامه، عشية ذهابه إلى المملكة العربية السعودية بعد أعوامٍ من القطيعة والمناكفات. ولا شكّ أن تخوفاته كانت موضع بحثٍ بالرياض، وقد خرج منها راضياً في الظاهر، لأنه بادر للإجابة على بعض الأسئلة بالقول إنّ على حماس وحزب الله المشاركة في المفاوضات!

والمعروف أنّ هناك «علاقةً إستراتيجية» قائمةً بين سورية وإيران منذ قرابة الثلاثة عقود. وقد كانت في البداية ضد صدام حسين، ومن أجل تحرير الأرض اللبنانية من إسرائيل. لكنّ الأرض اللبنانية تحررت، وصدام حسين ما عاد موجوداً بعد الاحتلال الأميركي للعراق. وعندما اتجهت سورية للتفاوُض مع إسرائيل من طريق تركيا وفرنسا، كانت علاقاتُها بالسعودية ما تزال متوتّرة، وكانت تجادل في المبادرة العربية للسلام! ثم إنّ سورية – ومنذ سنواتٍ – ما عادت هي الطريق الوحيدة لإيران للتدخل في المشرق العربي والخليج. ولذا فلا شكّ أنّ إقبال السعودية على سورية ليس سببه إبعادها عن إيران، كما هو مسعى الغربيين وإسرائيل؛ بل صون الوحدة والاستقرار في بلدان المشرق، وتوحيد الجهود لاستعادة القضية الفلسطينية، وإيصال الفلسطينيين والعرب إلى حقّهم، ومن ضمنه الجولان المحتلّ. أمّا إسهام سورية في منع التدخلات الإيرانية، فهو مسألةٌ أُخرى. ذلك أنّ تلك التدخُّلات تشمل إثارة الاضطرابات الداخلية المذهبية والسياسية، وتشملُ رفْع رايات النضال والممانعة، والتي تبدأ في وجه إسرائيل، وتنتهي في مُدُننا. كما تشمل أخيراً تزعُّم الإسلام السياسي الأُصولي، الذي يثير الانشقاقات، والمساومة بذلك كلِّه في المفاوضات مع الولايات المتحدة. وقد كانت سورية ندّاً لإيران في شعارات الممانعة والمقاومة، ثم صارت طريقاً وأداة؛ وهي تحاولُ الآن الخروج ، دون أن تتمكن من ذلك لعوامل مختلفة، داخلية وإستراتيجية. فتستطيع سورية بالطبع- ودونما صدامٍ أو مجابهة - أنّ تتوقف عن إعانة التدخُّلات. لكنّ مواجهة الإثارات الإيرانية تتطلب جهداً عربياً شاملاً، وبالمشرق والمغرب (الذي قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران مؤخراً!).

تُواجهُ المصالحات العربية عقباتٍ وشكوكاً ناجمة عن إرادة التهرب من المسؤولية، والاعتياد على الانكفاء أو المُخامرة خلال العقدين الماضيين. لكنّ المتغيرات الدولية والإقليمية تفرضُ تلاؤماً عربياً كبيراً، لصَون المصالح، ولاستنقاذ قضايانا، وفتح آفاقٍ مستقبليةٍ سدَّتْها الاجتياحات والتدخلات خلال السنوات العشر الماضية.