عودة حزب البعث؟

TT

عرضت حكومة المالكي على حزب البعث العراقي المحظور العودة للحياة السياسية الطبيعية مقابل نبذ العنف وقبول المعادلة المتولدة عن سقوط النظام الذي كان يهيمن عليه. يأتي هذا العرض بعد بروز حقائق أربعة بادية للعيان في المشهد العراقي:

أولا، فشل نموذج «الديمقراطية الطائفية» الذي صممته سلطات الاحتلال، وقدمته بديلا عن عقود من الأحادية الحزبية والاستبداد. فمن الواضح أن الاستحقاقات الانتخابية التي نظمت في العراق خلال السنوات الست الأخيرة لم تؤد إلى تطبيع الوضع السياسي المحتقن، وإنما حولت آليات التنظيم الديمقراطي والتنافس التعددي إلى أدوات لحسم الصراع الطائفي ومواصلته خارج الإطار التوافقي الضروري لتشريع وتقنين التعددية السياسية.

ثانيا، الانسحاب العسكري الأمريكي المرتقب المتولد عن الأزمة الأمنية والمالية المتفاقمة التي تسبب فيها الاحتلال، في ظرفية كساد اقتصادي خطير تعاني منه الولايات المتحدة، مما سينعكس بالضرورة على تركيبة الوضع السياسي العراقي الداخلي.

ثالثا، تراجع حركية العنف والإرهاب التي استهدفت بقوة سلطات الاحتلال والحكومة المتولدة عنها، إثر تضافر عاملين أساسيين هما: انكسار تنظيم القاعدة الذي أصبح معزولا داخل المجال السني ووصول الحكومة العراقية إلى توافقات في المسألة الأمنية مع شيوخ العشائر والقبائل في مناطق الاشتباك الطائفي.

رابعا، بروز إرادة أمريكية واضحة لإضعاف النفوذ الإيراني في العراق، مما يقتضي الانفتاح على القوى السياسية المناهضة لهذا النفوذ، وفي مقدمتها حزب البعث ذي الخلفية العلمانية والخبرة العدائية الطويلة للثورة الإيرانية.

يتعلق الأمر هنا بطبيعة الحال بحزب بعثي تغيرت تركيبته وانحسر تأثيره في الواقع العراقي، ولم يعد ذلك الحزب هو المهيمن على السلطة والقرار، المتحكم في كل منافذ الشأن العام. والحقيقة أن تحريم حزب البعث وحظر أنشطته كان من أكثر القرارات التي أخذها المحتل الأمريكي ارتجالية وعقما، شأنه شأن حل الجيش العراقي وتفكيك الإدارة الموروثة عن العهد السابق. لقد انطلقت سلطات الاحتلال في هذا القرار الخاطئ من سابقة تحريم الحزب النازي الألماني الذي ارتبط بعهد الطاغية هتلر بعد هزيمته في الحرب العالمية الثانية.

بيد أن الفوارق مع التجربة النازية عديدة، من بينها أن حزب البعث العربي لم ينشأ في البداية كحزب سلطة، بل تشكل تجسيدا مؤسسيا لمشروع فكري بلوره كاتب متفلسف واسع الثقافة، هو المفكر السوري ميشيل عفلق الذي استمد أطروحاته الأساسية من النزعات الحيوية الأوروبية، وفي مقدمتها أطروحات هردر وفيخته وفلسفة برغسون التي أتقنها أيام إقامته في فرنسا. وتعبر كتاباته الأولى التي تضمنها عمله الرئيسي «في سبيل البعث» عن هذه الاتجاهات النظرية الثرية، التي كانت تؤهله لأن يكون أحد أبرز الوجوه الفلسفية العربية، لا العقل المفكر لإحدى أكثر التجارب العربية إيغالا في القمع والاستبداد. ومن الصعب تحديد علاقة ميشيل عفلق بالأنظمة السياسية التي استندت لمشروعه، فالمعروف أن الرجل لم يتبوأ، إلا قليلا، وظائف رسمية، كما أنه قضى جل حياته في المنفى الذي توفي فيه بالفعل. وإذا كان ظل يطلق عليه في العراق تسمية القائد المؤسس، إلا أن هذه الوظيفة لم تكن إلا منصبا رمزيا لا يترتب عليه أي موقع فعلي في الحراك السياسي الذي يهيمن عليه بالكامل صدام حسين.

وغني عن البيان أن حزب البعث أدى دورا هاما في الساحة الثقافية العربية، وكان بالفعل أكثر تلوينات الآيديولوجيا القومية العربية رصانة وعمقا، ومن بين أبرز كتابه ومفكريه من تعرض للتنكيل والقمع في عهد صدام حسين (تحدث عنهم حسن العلوي في كتابه «وفيات الأعوان»).

وإذا كان الحزب النازي الألماني قام بوضوح على أفكار عنصرية عدوانية، فإن حزب البعث العربي امتاح مفاهيمه وقيمه الأساسية من الفلسفات الإنسانية الحديثة، ومارس العمل السياسي خلال حقبة الانفتاح الليبرالي في سوريا وحقق مواقع هامة في المجالس النيابية ومراكز الحكم. صحيح أن خط حزب البعث تحول بعد تحالفه مع التيار الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني عام 1950 من نفسه الفلسفي وغنائيته الرومانسية إلى الشعارات الثورية الراديكالية، كما تبنى مسلك التحالف مع الجيش أداة للتغيير السريع بدل الرهان على الديناميكية التاريخية الطويلة وانقلاب الوعي. إلا أن الأمر هنا يتعلق بتحول شامل طال الساحة الثقافية والآيديولوجية العربية في مجملها، بتأثير واضح من المقاييس الماركسية التي أعادت صياغة القوالب الفكرية العامة.

وما ربحه البعث في مراكز الحكم التي انتزعها عنوة، خسره في الرهان الثقافي، فتحول من حزب للنخب الثقافية إلى مجرد جهاز آيديولوجي للحكم الأحادي القمعي. والسؤال اليوم مطروح حول موقعه ودوره بعد خروجه من السلطة وعودته للحياة السياسية في معادلة ديمقراطية مفتوحة خارج مظلة الاحتلال.