خطوط منهج.. لحراك عربي مرتقب

TT

ليس يُلام المرء إذا أولى شأن قومه اهتماما خاصا أو مزيدا، فالاكتراث بالقوم نزعة فطرية واجتماعية معروفة ومحمودة، ما لم تكن عونا على الإثم والعدوان.. هذا هو أول حافز على تناول «القمة العربية الرباعية» التي عُقدت في الرياض في الأسبوع الماضي.. أما الحافز الثاني فهو اجتلاء «قيمة المكان» الذي انعقدت فيه القمة فللرياض مكانة جد مهمة في الشؤون العربية على مدى أكثر من قرن، فلا يكاد يقع حدث عربي على طول هذا المدى إلا وكانت الرياض «حاضرة» فيه: ابتداء وتأسيا.. أو دعما ومساندة.. أو إصلاحا لذات البين، أو إطفاء لحريق، أو غير ذلك من صور الحضور وصيغه.

أما الحافز الثالث فهو أن العرب «مستهدفون» - بوجه خاص - في حملات التخذيل والتشويه والكيد التي تطلقها دوائر عرفت بعدائها الشديد للعرب.. نعم، هي حملات تتأتى في سياق الكيد للمسلمين أجمعين، بيد أنها تخص العرب بأطنان مزيدة من الحقد والكراهية، وهي حملات مغذاة - في أصلها الفكري - من كتابات مستشرقين شانئين مردوا على التحذير (المنهجي)! من «نهضة الإسلام العربي» - حسب تعبيراتهم -!

ولقد لحظنا مفهوما جميلا - من حيث النظرية - في البيان الذي صدر عن تلك القمة. ذلك المفهوم أو المصطلح هو: الدعوة إلى إيجاد «منهج جديد» تتأسس عليه الحركة العربية المشتركة في المستقبل.. وإذ نحذر - مبكرا - من ابتذال هذا المصطلح (وهو تحذير يستند إلى سوابق عديدة في ابتذال الكلمات والمصطلحات على يد ساسة عرب).. إذ نحذر من الابتذال، فإننا نعُدّ التفكير في المنهج - من حيث هو - خطوة تقدمية ينبغي أن تؤيد.. وأن تخدم بعلم وفكر جادين.

وفي حقيقة الأمر: لا يمكن أن يتبلور منهج ما إلا وفق أسس تتميز بأربع:

أ - تتميز بالثبات العاصم من تقلب الأهواء، وتلون الأمزجة، ورقصات الشعارات.

ب - وتتميز بالوضوح.. فليس يسمى منهجا - قط - ذلك «الشيء» المنسوج من الغموض والإبهام والتلغيز.

ج - وتتميز بالعموم الذي يشمل الجميع، ويحتكم إليه الجميع بلا استثناء، بمعنى أن ليس هناك أحد فوق المنهج المختار، كما لا يجوز أن يطوع المنهج من أجل أحد: كائنا من كان.

د - وتتميز بالانتظام.. وتعني هذه الكلمة المنهجية: وجوب اطراد المنهج في الأحوال كافة، وهو انتظام مضاد - بطبيعته - للموسمية.. ومضاد - بطبيعته - لعادات خلع المنهج بسهولة وسرعة خلع الملابس أو تغيير طريقة الجلسة.

في ضوء ذلك: تتبدى ضرورة تعريف المنهج - بادئ ذي بدء -.. وهذا التعريف - في الحالة التي معنا - يتعلق بـ«الأمة العربية» -التي اقترح القادة الأربعة في الرياض بلورة منهج جديد لمعالجة مسيرها ومصيرها -.. فما مفهوم هذه الأمة؟

هل هي مجرد كيان جغرافي «شرق أوسطي» (كما تتخيل الصهيونية)؟ هل هي مجرد شعار شديد الطنين يتغنى بالأمجاد السابقة (كما يتخيل حالمون عرب)؟ هل مفهوم الأمة: نزعة عرقية محضة (كما يتمنى عنصريون عرب)؟ أو هي «كيان بشري له لغته وفلسفته ورسالته الحضارية ومجاله الجغرافي ومصالحه وأمنه القومي أو الاستراتيجي»؟ إن المنهج والعقل والواقع الموضوعي.. كل ذلك يرجح التعريف الأخير للأمة العربية.

وبعد التعريف، نلتقي بالأولوية الثانية في المنهج وهي أولوية تحديد قواعده.. وفي طليعة هذه القواعد:

1- قاعدة «الالتزام الجماعي» بالتعريف السابق للأمة العربية، إذ كيف تدار شؤون أمة لا تعريف ولا مفهوم لها؟

2- قاعدة «دفع المخاطر» التي تحيق بالأمة في سياقها العام. ومن هذه المخاطر الواجب دفعها بعزيمة مشتركة:

أ - خطر تمزيق العرب وتفتيتهم، وهو خطر تعدى الشأن القومي العام إلى الشأن الوطني الخاص، أي أنه بعد تمزيق صفوف الدول العربية، دارت ماكينة التمزيق داخل القطر أو الكيان الواحد (نماذج ذلك في فلسطين والعراق والسودان والصومال).. ومما لا يتناغم مع التفكير المنهجي: الظن بأن «التفتيت الوطني» سينحصر في هذه النماذج الأربعة.

ب - خطر «التخلف»: التعليمي والعلمي والفكري والإداري والسياسي والاقتصادي والإعلامي إلخ.

فهذا الخطر - الذي لم يفلت من أغلاله أي قطر عربي - هو أفتك أداة في يد الذات لتدمير الذات، كما أنه أفتك أداة في يد الأعداء الذين بيّتوا النية على إبقاء العرب في دائرة التخلف.. ومن هنا، يقضي المنهج المطروح بأن التخلف خطر ماحق يتوجب دفعه.. وهذان نموذجان - فحسب - من المخاطر الجماعية المتعين دفعها بعزيمة جماعية.

2- القاعدة الثالثة في المنهج المبتغى - الذي نادى به القادة الأربعة - هي «قاعدة البناء» أو جلب المصالح، فدفع المخاطر ينبغي أن يكون تمهيدا عميقا وموسعا لحركة بناء جديدة: بناءُ بناءِ التضامن الناقض للتمزق.. والبناء الحضاري القوي الساطع الناقض للتخلف وظلماته.

3 - القاعدة الرابعة في المنهج هي «تحديد الأعداء».. مَن - بالضبط - هؤلاء الأعداء؟ والتحديد ينبغي أن يكون وفق معايير موضوعية مشتركة.. ثم بعد هذا التحديد تأتي أهمية «ترتيب العداوات».

4 - القاعدة الخامسة هي «النقد الذاتي المتبادل».. فالتضامن العربي ليس معناه - قط - التضامن على «الأخطاء الذاتية». فهذا التضامن نوع من التعاون على الإثم والعدوان. ولذا يتوجب أن يكون من صميم التضامن إفساح مساحة واسعة لتبادل النقد الذاتي المحترم، وهو شيء مختلف - مضمونا وعبارة - عن حفلات الهجاء والردح والبذاءة التي غص بها الزمن العربي الحديث، حتى بلغت نسبتها في أدوات «الصراع العربي» أكثر من ???.. ولهذا النقد مشروعيته الراسخة في المصدر التشريعي الأعلى للعرب وهو الإسلام، فحين كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يبني مجتمع الإسلام ودولته، كان يتنزل الوحي لنقد الأخطاء وتصحيح المسار.. ومن ذلك - مثلا - نقد تفسير ما وقع في بعض مراحل غزوة أحد: «أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم».. ولقد انقطع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم.. بيد أن «مبدأ النقد» ظل ساري المفعول حيث إنه لا عصمة لأحد من الخطأ.. ووجود خطأ يقتضي وجود النقد.. وليس من منهج النقد الذاتي أن نسمع من القادة العرب - بعد اليوم - تلك العبارة المكررة وغير الصادقة أو غير المحترِمة للعقل، عبارة أن «وجهات النظر متطابقة في كل شيء»!!

إن الأمة في أشد الحاجة إلى «تنوع وجهات النظر» في قضايا عديدة، ولكنها وجهات النظر المتنوعة المحكومة بالأصول الثابتة التي تجتمع عليها الأمة. ولعلنا نمارس شيئا من النقد الذاتي - الآن - على النحو التالي:

أ - تباينت ردود الفعل على قمة الرياض الرباعية بين غلو معين، وآخر مضاد له.. أما الأول فزعم أن القمة «إنجاز تاريخي فريد» سينهي أزمات العرب كافة!!.. وهذا غلو بلا ريب.. أما الغلو المضاد فزعم أصحابه أن هذه القمة الرباعية مجرد صفر يضاف إلى أصفار سابقة وهي كلها أصفار ولا تكوّن «واحدا صحيحا».. والاتجاهان غاليان لأنهما نَدّا عن النظرة الموضوعية التي تقول: إن هذه القمة «بداية لتفاهم عربي موضوعي»، لا أكثر.. وإنها كسرت حواجز النفرة والقطيعة، لا أقل.

ب - تعجل عرب من العرب بـ«نعي الدور السعودي العربي» - لهذا السبب أو ذاك -.. وإذا كان النقد الموضوعي متقبَّلا، فالسعوديون لا يزعمون أنهم «معصومون» من الخطأ، وما ينبغي لهم، ولا يستطيعون، فإن أساليب النعي والطرح مرفوضة، ليس من الناحية النظرية المجردة فحسب، بل مرفوضة بموجب وقائع وحقائق.. ومن ذلك:

أولا: في أثناء الحرب الصهيونية على غزة، كان العرب في حالة كرب وتمزق شديدين.. وفي ذلك المناخ المكروب: حرّك الملك عبد الله بن عبد العزيز الجمود والركود وألقى خطابه العربي الجامع غير المفرق، ثم عقد لقاءات مصالحة وتآخ في ظل قمة الكويت الاقتصادية، فسبح ضد التيار السائد ونجح.

ثانيا: بعد ذلك تعجل أناس فزعموا أن تلك مجرد لفتة «قصيرة العمر» لا تلبث أن تتبخر.. وها هي دعوة الملك عبد الله إلى قمة الرياض تبطل تلك المزاعم حيث إنها قمة هي امتداد لمبادرته في الكويت، وإيذان بمصالحة قادمة في الدوحة بإذن الله.