آيرلندا الشمالية.. درس للفلسطينيين

TT

تفجر الإرهاب في أيرلندا الشمالية المعروفة بالستر ulster بعد سنوات من الهدوء على أيدي جماعتين منشقتين عن الجيش الجمهوري الأيرلندي آي آر إيه IRA الذي تخلى عن العنف في التسعينات. الأولى اغتالت جنود بريطانيين أثناء تسلمهم «بيتزا» للعشاء. والثانية اغتالت رجل بوليس استجاب لاستغاثة امرأة.

قارن المهتمون بأحداث الشرق الأوسط بين أيرلندا، وأحداث فلسطين، ومحاولات مصر التوصل لتسوية بين الفرقاء الفلسطينيين.

كان الإرهاب يعصف بشوارع الستر الجيش البريطاني يجوبها لفرض الهدوء قبل عشر سنوات عندما نشط رئيس الوزراء السابق توني بلير والمبعوث الأميركي السناتور جورج ميتشيل لإيجاد حل سلمي.

وباستثناء راديو الكويت تجاهل الإعلام العربي (والبي بي سي العربية) المشكلة الايرلندية، رغم أن خطة بلير- ميتشيل، تصلح كخريطة طريق لتسوية فلسطينية فلسطينية، يتبعها فلسطينية إسرائيلية.

لكن القلة من المفكرين الناطقين باللغة العربية – ومعظمهم غير غرب- الذين ابدوا اهتماما بالمسألة، لم تجرؤ على نشرها، رغم تشابه أصل النزاع في المسألتين: قوميتان تتصارعان حول هوية الأرض التي يشاركونها منذ عقود.

وعندما أثرت المقارنة، في محطة MBC عام 1998، راقبت ردود فعل الزملاء العرب، فلاحظت عدم استعدادهم فكريا لدراسة ما يقع خارج دائرتهم المألوفة نتيجة سيطرة الفكر القومي العربي ومفردات قاموسه على الإعلام العربي، بشكل يرفض أي معالجة تختلف عن احجام هذه المفردات.

فات الزملاء العرب أن مفردات القاموس القومي العربي تطمس مفهوم الأمة الفلسطينية، مما يضيع حق الفلسطينيين في تأسيس دولة قومية.

الإعلام العربي يستبدل التعبير الأكثر دقة «الصراع الفلسطيني الإسرائيلي» بتعبير غير محدد «الصراع العربي الإسرائيلي»، دون ذكر فلسطين، بينما يعولم الإسلاميون القضية «الصراع اليهودي [أو الصهيوني] الإسلامي».

الخلط هدية لليمين الإسرائيلي الذي يستبدل «فلسطينيين» بكلمة «العرب» لطمس الهوية الفلسطينية.

فالقوميون العرب يساعدون الليكود بمسحهم للهوية الفلسطينية من وعي القارئ بعدم ذكر «الأمة الفلسطينية» بل يدمجون الفلسطينيين «كعرب» فيما يسمى بـ «الأمة العربية» ككيان عاطفي يوجد في الشعارات وليس في كتب القانون الدولي أو سجلات الأمم المتحدة؛ ويرحب به اليمين الإسرائيلي «كمقصد» يذهب إليه «عرب» إسرائيل الكبرى إلى غير رجعة.

ويرحب اليمين بترسيخ مفهوم «الأمة العربية» التي لا وجود لها على أرض الواقع ليضيف مكسبا سياسيا لمفهوم «الغيتو» Ghetto أو «حارة اليهود» باعتبارها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة ويحاصرها عشرات الملايين من «العرب» المنتمين «لأمة واحدة» مستثيرين عطف العالم الديمقراطي، خاصة أوروبا بتاريخها الطويل من اضطهاد اليهود.

فما هو الموجود على أرض الواقع؟

خلاف إسرائيلي سوري حول أرض محتلة والحدود. هل هي حدود فلسطين الانتداب البريطاني؟

أم خط هدنة 1949 الذي وضع السوريين على شاطئ الجليل (بحيرة طبرية)؟ استخدم تعبير «خلاف» وليس «صراع»، فلم تقع اشتباكات بين الجانبين منذ هدنة 1973.

أما الصراع الوحيد، وعنصراه الأمن والاحتلال، فهو بين فلسطين وإسرائيل..

وليس بين بقية بلدان معاهدة جامعة الدول العربية، وإسرائيل خلافات تهدد بمواجهات عسكرية. بل هناك معاهدات سلام وتبادل تجاري وديبلوماسي بين إسرائيل وتسع من دول الجامعة العربية.

ومثل ايرلندا، هناك منشقون ومتطرفون يستخدمون السلاح، في البلدان العربية، وحتى في أوروبا منظمات تسعى لتدمير الدولة اليهودية لأسباب عنصرية أو آيديولوجية.. لكنها هامشية، أو تتلقى دعما خارجيا لتنفيذ مخططات الممولين، لكنها لا تعبر عن موقف الأغلبية بدليل أنها لم تنتخب أو تعمل في الخفاء.

غياب تعبير «الأمة الفلسطينية» عن الإعلام العربي يعود لانتماء معظم الصحافيين لجيل لم يدرب مناهج التعليم عقوله على التفكير المستقل، وبالتالي يتناقض تعبير: «الأمة الفلسطينية» مع ما زرع في عقله بأن «الأمة» الوحيدة في اللغة هي الكيان الوهمي «الأمة العربية» الذي يرحب به اليمين الإسرائيلي الرافض للقومية الفلسطينية وبالتالي «الأمة الفلسطينية» Palestinian nation، وفلسطين إذن أرض بلا أمة وسكانها «عرب» ينتمون إلى «امة عربية»، فليرحلوا إليها وتحل المشكلة.

الإسلاميون يدعمون خرافة الليكود برفضهم القومية الفلسطينية؛ فالفلسطينيون مجرد «مسلمين» ينتمون لكيان عاطفي آخر «الأمة الإسلامية».، وغير المسلمين هم «بدون» أسقطت عنهم الجنسية الإسلامية حسب أيديولوجية تحرف تفسير القرآن لترويج العنف وإقناع الفرد بالتضحية بنفسه وبالأبرياء حوله (وهم شهداء سيدخلون الجنة دون أخذ رأيهم في الأمر) لهدف «استراتيجي» يسقط حق الفلسطينيين في دولة قومية في سبيل دولة الخلافة العالمية.

المشكلة الفلسطينية ربما تكون أيسر حلا من المسألة الأيرلندية لولا تداخل الآيديولوجيات البعثية القومية العربية، والإسلاموية المتطرفة ودعوة الإخوان المسلمين للعودة للخلافة مع مطلب الفلسطينيين المباشر بإنهاء الاحتلال وإعلان دولتهم المستقلة.

في ايرلندا الشمالية سعت الأقلية الجمهورية (وأكثرهم كاثوليك) لفك الارتباط ببريطانيا والاندماج في جمهورية الجنوب، وإرادات الأكثرية من الوحدويين (وأغلبهم بروتستانت) البقاء داخل بريطانيا. وبعكس جيران فلسطين الذين يعقدون المشكلة لأسباب آيديولوجية، عدلت جمهورية ايرلندا المادة 37 من دستورها فلم تعد تطالب بضم الشمال، مما سهل حل المشكلة.

واختيار رئيس الوزراء البريطاني للوساطة الفلسطينية كان موفقا من جانب اللجنة الرباعية لنجاحه في حل مشكلة ايرلندا الشبيه بالمسألة الفلسطينية الإسرائيلية في معظم جوانبها، بدليل صمود الائتلاف الحكومي في ايرلندا الشمالية ورد فعل ساستها الموحد للإرهاب.

حكومة ائتلافية من أعداء الأمس الجمهوريين والملكيين تحكم ايرلندا الشمالية التي أعيد إليها الحكم الذاتي في مشروع Devolution لحكومة العمال التي منحت اسكتلندا وإمارة ويلز حكما ذاتيا وبرلمانا خاصا بها. وعندما تلكأت الأطراف في المصالحة، هدد بلير بتعليق الحكم الذاتي، فأسرعوا بالتصالح. وجلس القس ايان بيزيلي، زعيم حزب اليستر الوحدوي، الذي أسمته الصحافة «الأب رفض» لرفضه لاعتراف أو التفاوض أو الصلح مع الجمهوريين، مشاركا مارتين ماكيجنيس زعيم الحركة الجمهورية.

وهذا «ركلام» نجاح مسيرة السلام الايرلندية، التي تأخرت سبع سنوات عن مسيرة السلام الإسرائيلية الفلسطينية، فلماذا نجحت الأولى وتعثرت الأخيرة؟

الجمهوريون تخلوا عن العنف ونزعوا سلاحهم كاملا في تنازلات تكتيكية في سبيل مكسب السلام الاستراتيجي الذي عاد بانتعاش اقتصادي.

الساسة الجمهوريون الذين اختاروا السلام تعاملوا بحزم مع الجماعات المنشقة التي تريد استدراج الجيش البريطاني لاحتلال الشوارع «لقتاله حتى النصر» وسلمت المنشقين للعدالة ولم تسمهم شهداء أو مجاهدين.

ولعل في درس أيرلندا الشمالية عبرة للفلسطينيين والإسرائيليين معا.