مشاهدة أهل دارفور يحتضرون

TT

المحنة الأولى التي تجابه الرئيس أوباما لم تأت من إيران، ولا روسيا والصين، وإنما السودان، متمثلة في قراره طرد منظمات الإغاثة، التي تعد شريان الحياة، الذي يبقي على ما يزيد على مليون شخص على قيد الحياة في دارفور.

وللأسف، جاء رد الفعل الأول للإدارة بالغ الضعف، حيث اكتفت وزارة الخارجية بالتنويه على استحياء، بأن قرار الطرد «لا يخدم بالتأكيد من هم في حاجة إلى الإغاثة».

لكن منذ ذلك الحين، شددت الإدارة، إلى حد ما، من موقفها من السودان. وأخبرتني سوزان رايس، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، بأنه: «حال استمرار هذا القرار، فإنه قد يرقى إلى ارتكاب إبادة جماعية بسبل أخرى». وهذا تحديدا هو الموقف الذي ربما نحن بصدده في الوقت الراهن، ذلك أن الرئيس عمر حسن البشير، يؤكد الحكم الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية، التي أمرت بإلقاء القبض عليه لتورطه في جرائم حرب وقتل واغتصاب. والآن يتهيأ البشير لقتل أعداد كبيرة من الأفراد، لكن ليس بالأسلحة هذه المرة، وإنما من خلال منع المساعدات التي تعينهم على البقاء.

جدير بالذكر أن ما يزيد على مليون شخص يعتمدون بصورة مباشرة على منظمات الإغاثة، التي تعرضت للطرد، لسد احتياجاتهم المتعلقة بالرعاية الصحية والغذاء والمياه. لقد زرت بالفعل المعسكرات، التي يقطنها هؤلاء الأفراد، وبمقدوري طرح تكهن بما سوف تسفر عنه هذه الخطوة.

وفي واقع الأمر، لا تمثل المجاعة التهديد الأكبر الملح في الوقت الراهن، ذلك أن وقوعها سوف يستغرق بعض الوقت، وإنما ستتركز الأزمات الأولى في انتشار الأوبئة ونقص المياه، خاصة في غرب دارفور.

وسرعان ما ستنفذ المياه الصالحة للشرب داخل هذه المعسكرات، جراء توقف المضخات، التي تدفع المياه إلى السطح من الآبار. وربما تكفي إمدادات الوقود المتوافرة حاليا لتشغيل هذه المضخات لمدة أسبوعين، ثم تختفي إمدادات المياه.

يذكر أن المستوصفات الصحية أغلقت أبوابها بالفعل، في الوقت الذي ينتشر مرض الإسهال في معسكر زام زام، والتهاب السحايا في معسكر كالما، وهما معسكران ضخمان ـ على سبيل المثال، يضم معسكر كالما حوالي 90.000 شخص ـ ومن الممكن انتشار الأمراض بسرعة. والمؤكد أن الأطفال سيكونون أول الضحايا.

وربما يقدم مئات الآلاف من سكان هذه المعسكرات على محاولة الفرار إلى تشاد، لكن هذا الأمر من شأنه تشكيل عبء شديد على أبناء البلاد، الذين يعانون بالفعل من الفقر وأوضاع سيئة. وما يزيد الأمور سوءا، قيام البشير بتسليح قوة كبيرة من المتمردين التشاديين تعمل بالوكالة، تشير أقاويل إلى أنها تتهيأ لمهاجمة الحكومة التشادية.

في هذا الصدد، أكدت لي جوزيت شيران، رئيسة برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، أن: «هذا الوضع سيفتح بابا جديدا تماما من الجحيم على أبناء دارفور. لقد تم للتو تقويض الجسر الذي يمد ما يتجاوز مليون شخص بالحياة».

من وجهة نظري، تقوم حسابات البشير على عنصرين، أولهما: أمله في أن تجبر معاناة أبناء دارفور مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على إرجاء عمل المحكمة لمدة عام (وأخطأ في هذه الحسابات، لأن ذلك لن يحدث). ثانيهما: راودت البشير منذ أمد بعيد الرغبة في التخلص من عمال الإغاثة في دارفور، الأمر الذي يرجع إلى عدة أسباب، منها أنهم يشكلون أعين وآذان العالم هناك.

منذ أسبوعين، كنت بمنطقة الحدود بين تشاد ودارفور، أتحدث إلى لاجئين من الإقليم السوداني. وقد أعربوا عن قلقهم من إمكانية شن البشير حملة انتقامية ضدهم، بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية أمر توقيف ضده. ومع ذلك، أبدى اللاجئون سعادتهم إزاء إمكانية إلقاء القبض عليه، باعتبار ذلك مؤشرا على أن أحبابهم الذين سقطوا ضحايا لهم أهمية، وكمؤشر كذلك على أن الحصانة التي تمتع بها بعض القادة على الرغم من ارتكابهم أعمال قتل واغتصاب أوشكت على نهايتها. ولم يبد أي من أبناء دارفور الذين تحدثت إليهم تفضيله لإرجاء إجراءات المحكمة الجنائية الدولية.

وتكمن مشكلتنا الكبرى في الاستجابة لما يجري في دارفور، في أنه لم يتوافر لدينا قط أي جزرة أو عصا. وعلى الرغم من أنه من العسير في هذه المرحلة عرض أي جزرات، فإن باستطاعة الولايات المتحدة والدول الأخرى استخدام العصا.

يذكر أن الجنرال ميريل مكبيك، رئيس هيئة أركان القوات الجوية السابق، ورئيس فريق العمل، الذي أشرف على حملة أوباما في الانتخابات الرئاسية، اقترح في مقال نشرته «واشنطن بوست» يوم الخميس، فرض منطقة حظر جوي على دارفور، بهدف تكبيد الحكومة السودانية ثمنا لوحشيتها وكسب نفوذ بهذه المنطقة.

المعروف أن السودان تولي اهتماما كبيرا بالحفاظ على قوتها الجوية، لأسباب عدة، منها الاستعداد لتجدد الحرب ضد جنوب السودان. ويعني ذلك أن حرمانها من غطاء جوي أو فقدان طائرات حربية مروحية سيثير قلقا عميقا لدى المؤسسة العسكرية السودانية، الأمر الذي يكسبنا نفوذا.

ويتمثل خيار آخر في أن تستولي حكومة جنوب السودان على مقاليد إدارة الإقليم. من ناحيتهم، عرض قادة جنوب السودان مرارا إرسال 10.000 من قواتهم إلى داخل دارفور. وإذا كانت الحكومة السودانية القائمة في الشمال عاجزة عن توفير الأمن أو الاهتمام باحتياجات أبناء الإقليم، فبمقدور الجنوب إذن محاولة الاضطلاع بهذا الدور، مع تمتعه بدعم دولي.

من ناحيتها، قالت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية السابقة، إن مقترح الجنرال مكبيك بإقرار منطقة حظر جوي أثار اهتمامها، وأضافت: «لا أعتقد أن المجتمع الدولي باستطاعته الوقوف صامتا ومشاهدة المزيد من الآلاف يتضورون جوعا حتى الموت. لقد تعرضنا لانتقادات، عن حق، فيما يخص رواندا». لكنها استطردت موضحة أن الإبادة الجماعية في رواندا انتهت سريعا، بينما لا تزال مشكلة دارفور قائمة منذ سنوات. وقالت: «لا يمكن مشاهدة هذا الوضع دون أن ينتاب المرء الشعور بضرورة اتخاذ إجراء ما».

*خدمة «نيويورك تايمز»