لقاء.. وتحدٍ

TT

هناك علاقة أكثر من خاصة بين الرياض ودمشق والقاهرة. تستوي العلاقة فتثمر خيرا، وتضطرب فتتوتر المنطقة العربية بأسرها. والذاكرة لا تزال حية بمشاهد غير بسيطة تؤكد على صدق هذه المقولة، ولعل أبرزها كان ما حدث من تعاون مهم وانسجام في المواقف والمبادئ إبان حرب أكتوبر 1973، التي أدت إلى نتائج إيجابية وحقيقية، وذلك بعكس الحقب الناصرية والثورية التي كانت قبلها، التي لم تقدم للعرب سوى الكلام الخالي من أي إنجاز يذكر. وبعد ذلك تكرر نفس التعاون خلال حرب تحرير الكويت من احتلال جيش صدام حسين لها في أول التسعينات الميلادية من القرن الماضي، ولولا هذا التعاون الاستراتيجي لما كان من الممكن أن تدار حرب التحرير بالسهولة والفعالية التي كانت عليها وتحققت. وبعدها تم استحداث ما عرف بمجموعة «إعلان دمشق»، التي كانت تضم الدول الثلاث بالإضافة لغيرها، والهدف الأساسي من هذا التكتل كان إيجاد وحدة سياسية اقتصادية مشتركة بينهم، لأجل توحيد المواقف ونقل فكرة التواصل السياسي من فكرة ردة الفعل على موقف بعينه إلى سياسة مصالح عامة مشتركة تتفق وتدافع عنها كافة الأطراف بصورة موحدة ومشتركة. لكن السياسة ماكرة، والتطورات الصعبة صدمت الأماني الجميلة بقوة شديدة، وحدث ما حدث، واتسعت الهوة، وزادت الفروقات، وتفاقمت الاختلافات، واحتدت المواقف، وباتت متباينة إلى درجة أصبح من الصعب تخيل الحل الذي يخرجها من حالة الهم إلى الفرج، حتى جاءت قمة الكويت الأخيرة وخطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز فيها، الذي كان مفاجئا للجميع، وتم فيه دفن الخلافات العربية وطي صفحة الماضي. بدأت كرة الثلج في التدحرج، وارتفعت وتيرة الزيارات البينية والرسائل الإيجابية، حتى حدثت قمة الرياض، والتقى الزعماء الثلاثة بمشاركة أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح، وانطلقت بداية جديدة للعمل العربي، أو على الأقل هذا هو الرجاء والأمل المنشود. كما يبدو واضحا أن هناك اتجاها جديدا في السياسة العربية، فهي تنتقل من مرحلة الشعارات والقيادة الفردية لراغبي المجد الشخصي إلى مرحلة «الواقعية» والقيادة المشتركة. هناك رؤية ناضجة واعدة جديدة تترفع عن التمسك بالنتائج الشخصية مقابل الحراك الحقيقي الإيجابي، وهذه بحد ذاتها نقلة هائلة في الفكر السياسي العربي، الذي كان مشلولا ومقيدا لسنوات طويلة. ولعل «أبرز» الملفات التي ستلحظ نتاج لقاء قمة الرياض وما تم الاتفاق عليه، هما ملف القضية الفلسطينية والملف اللبناني. الملف الفلسطيني يبدو واضحا أنه وضع تحت إدارة الإدارة المصرية بصورة حصرية ورئيسية وبرضا الأطراف، والملف اللبناني يبدو أنه حدث تفاهم على الأدوار وعلى الأطراف الرئيسية التي ستقوم بهذه الأدوار وتخفيف حدة التدخلات والمواجهات على الساحة اللبنانية المتوترة أصلا. هناك لغة جديدة «متوقعة» تبتعد عن مصطلحات «الضد» و« المواجهة» و«الممانعة» التي استهلكت وأتعبت من يتابعها، ولم تؤد إلى شيء سوى تكريس الفرقة بين الأطراف. الواقعية السياسية العربية تبدو أنها مرشحة لتكون خطا سياسيا جديدا يجمع ولا يفرق، ولعل أبرز ما يدعم هذا الاتجاه هو الحالة النفسية الإيجابية التي استشعر بها الشارع العربي وتنفس بعدها الصعداء مستبشرا خيرا. هناك حديث طال انتظاره أيضا ومتوقع عن وجود مشاريع اقتصادية متكاملة بين الأطراف، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من أهمية ذلك، لأن الاقتصاد ومشاريعه المدروسة ستساهم في رفع المستوى المعيشي لأبناء هذه الدول وتحسين فرص العيش بكرامة، وهذا هو الهدف الأسمى والأهم لأي توجه سياسي، وهذا أيضا كفيل بدعم العلاقات عن طريق تزكية فكرة العيش والمصلحة المشتركة، بعيدا عن الشعارات الفارغة التي لم تقدم إلا الظواهر الصوتية البائسة. لقاء الرياض هو صفحة جديدة ومهمة في العلاقات العربية يراقب نتائجها المتوقعة شريحة غير بسيطة من العرب، وهي خطوة أولى في طريق مهم، ولعل باقي الأطراف المتنازعة تستفيد مما حدث وتقلده.

[email protected]