الإصلاح الإداري.. والعالم الثالث

TT

تعاني الدول النامية (العالم الثالث) من معضلة رفض التغيير. التي تقف في وجه الإصلاح الإداري، وتفشله، وتصرفه عن أهدافه وغاياته. لذلك فإنها معضلة تستحق الوقوف عندها، لتشخيصها، ولمعرفة السبل المثلى للتخلص منها. ويأتي في طليعة تشخيص هذه المعضلة ما يتعلق بالوصف الدلالي للتغييرات، حيث لا يمكن إحداث أي تغيير إداري يهدف إلى الإصلاح دون أخذ الوصف الدلالي بالاعتبار. وإدراك الخسائر والمكاسب التي تواجهها الأطراف المتأثرة بعملية التغيير. إضافة إلى شمولية التغيير للمفاهيم الخاطئة المتغلغلة في المجتمع. لذلك فإن الإصلاح الإداري أوسع من التنظيم الجامد والتغيير الشكلي، فهو يشمل معالجة الممارسات الرمزية للمؤسسات، وهو ما يعرف بـ«نظام الدلالة والمغزى»، وله بُعد رمزي أبعد بكثير من الأسماء ومن الأشخاص ومن الفهم التقليدي للإصلاح. هذا كله يجعل التشكيلات والتفسيرات الإدارية في العالم الثالث في ذهن بعض الرافضين للتغيير، خاضعة لتلك الرمزية من التجاذبات الطائفية، والإقليمية والقبلية بل والفكرية والشخصية أحيانا، مما يسهم بقوة في تكوين الموقف الرافض للتغيير، وإلباس ردة الفعل لباسا شخصيا أو ثقافيا ونحو ذلك. وفي هذا الجو الرافض تُحدث الإصلاحات الإدارية صراعا مفتعلا داخل المؤسسة الحكومية، يتبناه التيار الرافض للتغيير، وتغذيه ممارسات بعض القيادات الإدارية غير القادرة على فهم المرحلة بترسيخها لتلك المفاهيم (من حيث تدري أو لا تدري) مما يسهم في تعطيل عملية الإصلاح تلك. يتم ذلك في ظل غياب النظام المؤسسي الرقابي المحايد داخل المؤسسات، وكذلك المتابعة الصارمة للعملية الإصلاحية، لكي لا تُعَطَّل وتُحيَّد عما رُسم لها من قبل القيادة السياسية، إضافة إلى افتقاد تلك المؤسسات والمجتمع للفهم الصحيح لثقافة التغيير والإصلاح، مما يشعر بعض العاملين بالاضطراب الوظيفي ويقودهم إلى التشاؤم من المستقبل وبالتالي الانكفاء (متوهمين) على من يُظن أنه يؤمِّن لهم الأمان خلاف الدولة. وتصف النظريات الاجتماعية النفسية حالات التوتر هذه بأنها نوع من التشتيت، الذي يتسم بالإحباط الناتج عن العجز لتحقيق الآمال وعدم القدرة على التكيف مع التغييرات. إلا أنه يؤخذ على هذه النظريات إغفالها لجانب خلق الفرص للأفراد من قبل القيادات الإدارية الواعية والجديدة في هذه الدول، التي جعلت الوطن مقدما في فهمها للإصلاح والتغيير على غيره (بعيدا عن تلك التجاذبات بأنواعها والولاءات الوصولية المستترة والمتغلغلة) وتسليم تلك النظريات بأن الإصلاح الإداري لوحده غير كافٍ لإقناع الرافضين للتغيير بالأهداف والخيارات الإستراتيجية لعملية الإصلاح تلك. ولا تكاد توجد مثل هذه الإشكالات في الدول المتقدمة، كون مفهوم الإصلاح الإداري عندهم يختلف كثيرا عما هو عليه في دول العالم الثالث. فهم يرون الإصلاح الإداري عملية مؤسساتية لا ترتبط بالأشخاص أو تصب في صالحهم بل تصب في مصلحة الوطن أولا ثم الفرد فالمجتمع، تحقيقا للعدالة وسيادة القانون.

فقياس نجاح القيادات لديهم والمناط بها عملية الإصلاح الإداري هو في مدى استجابتها لخلق الفرص لكافة العاملين على أساس النزاهة والكفاءة والقدرات الذاتية بدون تمييز، وصهرها لتلك الطاقات البشرية المتاحة لتحقيق الهدف المرسوم من قبل القيادة السياسية، لذلك فهم لا يحتاجون إلى مواكبة الإصلاح الإداري بخطة، أو حملة خاصة تعالج ثقافة المفاهيم تلك!

[email protected]