ما قيمة الندم؟

TT

في المحاكم عادة يقول المجرمون ما يريد أن يسمعه الجمهور، أنهم آسفون. أكبر لص مالي في التاريخ الحديث عمره سبعون عاماً، سرق أكثر من ستين مليار دولار، وعندما واجهه القاضي بالتهم قال معترفاً إنه يشعر بالعار والندم. برنارد مادوف، رجل محترم، بمقاييس رجال الأعمال المحترمين بنكياً، يشعر الآن بالعار لأنه سائر في الطريق إلى السجن وليس عندما كان يسلب أموال الناس الذين ائتمونه، بما فيها أموال صندوق للمتقاعدين. كان «يستعيرها» حتى يمول بها مشاريعه إلى أن فضحته الانهيارات المالية.

لا أصدق من يدعي مثله الندم والشعور بالخزي، وهو الذي عاش حياة طويلة يمارس الجريمة نفسها، إلا فقط لأنه قبض عليه. ربما يرجو من ندمه أن يخفف من طعن سكاكين التشهير التي تقطع جلده، ولا أظن أن إعلانه أسفه يريد به تخفيف العقوبة فهي سجن لأكثر من مائة سنة، ومهما قُلصت فلا قيمة لها.

في رأيي أنه ندم المدمنين، ندم مؤقت. هناك فارق بين الندم والتوبة، فالأول لا يقود بالضرورة إلى الثانية. وحب المال بشراهة مرض مثل سعار الحيوانات، مثل إدمان القمار والخمر، حيث يمكن للمرء أن يأسف بعد كل ليلة إفراط، لكن ما إن تشرق الشمس في الصباح التالي حتى تعود الآفة، ربما.

ورغم التسميات التجميلية فإن المفاهيم في عيون الناس واحدة، يرون في الثراء المفرط ليس سوى حالة نهب شاملة. ولو أن مادوف لم ينكشف أمره لاستمر يسرق، واستمر يوصف بأنه رجل أعمال ناجح.

ستون مليار دولار، قمة الجشع مهما كانت الوسيلة. فما الذي يمكن لأي إنسان في الدنيا أن يفعل بمثل هذه الثروة لولا أن الإفراط في حب المال مرض إدمان، وككل حالات الإدمان يدفع المرض صاحبه لمعاودة ارتكابه مهما نفى وندم. سيمضي مادوف ما تبقى من عمره في زنزانة باردة نادماً، لكن لا تصدقوا أن السجن سيداوي إدمانه ولن يداوي بقية الجشعين بالردع أو غيره.

لا أقول ما يقوله الماركسيون من أن الثراء خطيئة، ولا كما تصور المسلسلات المصرية الأثرياء وحوشاً ومجرمين. فالكثير من دوافع حب المال هو حب النجاح، مثل حب الفوز في الرياضة، والانتصار في ميادين المنافسة، إنما الخيط الرفيع يفصل النجاح المادي عن الجشع عندما يكون اعتداء على الغير، وعلى حقوقهم. والفارق بين ثري وآخر ليس في جمع المال بل في إنفاقه، وهنا تأتي المسؤولية الاجتماعية التي يرفض كثيرون من أغنيائنا الالتزام بها. فهم يعتبرون واجباتهم الدينية، مثل صرف الزكاة، أو واجباتهم النظامية مثل دفع الضرائب، كافية، في حين أنها ليست كذلك بحكم كونها واجباً لا أريحية، وهنا يبدأ الجشع بكنز المال.

[email protected]