تلك هي المسألة

TT

صدق أو لا تصدق أن 4000 كتاب نشرت في الولايات المتحدة العام الفائت للتعليق على السعادة وتوصيف الإحساس بها. والباعث على الدهشة أيضا هو أن عدد الكتب المختصة بالموضوع نفسه لم يزد على 50 كتابا في عام 2000. وفي جامعة هارفارد لوحظ إقبال الطلبة والطالبات على مناهج التفكير الإيجابي، ولا يقتصر هذا الإقبال على طلبة الجامعات فحسب، بل إن الدورات التدريبية التي تعلم عامة الشعب كيفية بلوغ حالة من السعادة تنتشر في كل مكان. ولذلك نهضت مجموعة من أساتذة الجامعات لدراسة مضمون الكتب والدورات التدريبية التي تعلم الناس أن يكونوا سعداء، واكتشف هؤلاء أنه على الرغم من هذا الاهتمام بالبشر والسرور وأسعد الأمور فإن حالات الاكتئاب المرضي زادت بنسبة 15% خلال السنوات العشر الأخيرة.

وفسرت بعض الدوائر الأكاديمية هذا التحول بأن اللهاث وراء التخلص من الاكتئاب أدى إلى ابتكار وسائل فورية لشحن الأفراد بجرعات سريعة ومتتالية من السرور. ليس غريبا أن يشعر الفرد بحالة من التعاسة فيلبي نداء الماكينة الإعلانية ويهرع إلى أكبر مجمع تجاري لشراء ثياب جديدة، أو أحدث أجهزة الهاتف النقال، أو قنينة عطر فاخر. ومثله يشعر بأنه تخفف من التعاسة لفترة قد تطول وقد تقصر، ولكنه حتما لا يتيح الفرصة لنفسه لمواجهة أو تحليل المشاعر التي فرضت عليه التعاسة. وربما تجدد إحساسه بالتعاسة فيظل غير قادر على تحليلها إلى أسباب ومسببات، والنتيجة هي استبدال التعاسة بفرح مؤقت لا يدوم، واستمرار اللهاث وراء سلسلة من المحفزات تستبدل الواحدة بأخرى لدرء الحزن على مدار ساعات النهار.

ما هي السعادة إذن؟ هل السعادة هي أن تحمل وجها مبتسما لا يعرف العبوس طريقا إليه؟ هل هي إلغاء كل أشكال المزاج العكر من حساباتك؟ أم هي التخلص من كافة أنواع القلق وكل حالات الغضب من الآخر؟

يبدو أن وصف السعادة الذي اتفق عليه أساتذة علم الأعصاب وعلم النفس وعلم الاقتصاد السلوكي وغيرهم، هو أنها حالة أكثر عمقا من إنفاق الملايين في لحظة نزق. اتفق العلماء على أن السعادة هي القدرة على الالتزام بقيمك وتوظيف مواهبك وتحديد أهدافك، وإلى جانب ذلك كله فإنها حالة تتبلور كلما تجدد إحساسك بالانتماء إلى مجموعة، وتجدد استعدادك لتعلم شيء جديد حتى ولو على حساب راحتك.

أعترف بأنني لا أميل إلى قراءة هذا النوع من الكتب، ليس لأنني أمتلك سر السعادة الأبدية، ولكن لأنني أتعايش مع أحزاني وأعقد معها اتفاقات تهدئة، وأمنحها فرصة للظهور كما لو كانت طفلا صغيرا يصر على اللعب وإشاعة الفوضى في بيت منظم. ربما كانت أهم مكونات السعادة هي صلة الإنسان بربه ونقاء سريرته، إنها إحساس متصل بأن الله يرعاك. تصور أنك تمشي في طريق تناثرت على جنباته أشياء كثيرة متنوعة، وتصور أنك تحمل سلتين، على كل كتف سلة، وعلى طول الطريق تلتقط مما يصادفك نوعين من الأشياء، وحين تكتشف أصولها تضع السارّ منها في سلة، والضارّ منها في الأخرى. تفاءل إذا اكتشفت أن سلة المسرات أثقل بكثير من سلة المضرات، والسؤال هو: من المسؤول عن اختيارك؟ قد تكون أنت المسؤول، ولكن من المسؤول عن وجود ما يسرّ و ما يضرّ في طريقك؟ تلك هي المسألة.