أبو المتاحف

TT

هو ذا نبأ سعيد. ومن العراق أيضا: متحف بغداد، الذي بدأ به السلب وبدأت به الحرب، يفتح أبوابه من جديد. لكن على ماذا؟ ما الذي أعيد إليه من آثار وتحف؟ وماذا كان قد بقي فيه قبل أن يقتحمه البرابرة ويبعثروا محتوياته في أسواق العالم ومعارض المسروقات الثمينة؟ لم يعد أحد يعرف شيئا. فقد اختلط الموت والحياة في العراق، النهب والخوف، التضحية والسرقة، الصمود والقتل، حتى لم تعد هناك أهمية تذكر لما يفترض أنه أحد أهم متاحف العالم.

لقد أصبح الشيء الأهم في يوميات العراق أن ينجو العراقي بنفسه في نهاية النهار، وأن يكون على قيد الحياة عندما يقوم إلى الفجر. ولفترة أصبح أعتق تاريخ في التاريخ ترفا لا يستحق الاهتمام ولا العناء. فمسألة الحياة الآن، هذا الصباح، والحصول على عدد كاف من الأرغفة للأولاد، أهم بكثير من آثار الحياة أيام بابل أو في زمن نينوى. ولذلك مرت أفدح سرقة أثرية في التاريخ الحديث من دون استنكار يذكر، اللهم إلا من مجموعة مقالات وبضعة كتب صدرت في الولايات المتحدة نفسها.

وخلال حرب لبنان كانت قد حدثت سرقات مشابهة من المتحف الوطني نفسه ومن آثار صيدا وصور وبعلبك، لكن معظمها بقي من دون تحقيق. والسرقات الكبرى التي تم التحقيق فيها بيعت محاصيلها في مزادات لندن وباريس.

تعرضت ثروات العراق الأثرية لما تعرضت له ثروات مصر من قبل. وكلاهما أعتق الحضارات في العالم. واحدة على ضفة النيل وواحدة على ضفاف دجلة والفرات. لكن في بلاد ما بين النهرين قامت أول دولة ـ مدينة في العالم، وفي بابل روت الأساطير كيف نجا «اتراهاسيس» الحكيم من الفيضان العظيم، عندما صعد إلى قاربه ومعه جميع البذور التي سيعيد زرعها في الأرض. وهل من هنا نقل داروين فكرة «النشوء والتطور»، من بابل التي كانت تعتقد أن «الآلهة» خرجوا من مادة «لا اسم لها ولا طبيعة ولا مستقبل» هي خليط من الطين والملح؟

ولدت أساطير بين النهرين من محاكاة هذه الأرض الجبارة. لكن لم تلد الأساطير وحدها هنا بل الحضارات الأولى. وهذه الشهادات على التاريخ الأول كانت مكدسة في متحف بغداد كما تكدست الآثار في أرض العراق. ولا أحد يعرف على وجه الضبط ماذا سرق منها، وماذا يمكن أن يعاد. لكن عندما تفيق بغداد إلى نفسها ذات يوم سوف تتذكر أن في أرضها بدأ الإنسان في كتابة سيرته كمخلوق متحضر.