.. وكان الإملاء صعبا!

TT

اشتغلت بتدريس الفلسفة في الجامعة عشرين عاما. وكنت أحاضر مرتجلا ـ أي بعد أن أكون قد أعددت موضوع المحاضرة ورتبت أفكاري تماما. وفي بداية العام الدراسي أقول للطلبة محذرا: هناك عيبان في محاضراتي، أنني أتكلم أحيانا بسرعة وأن صوتي خفيض. ولكني سأحاول قدر استطاعتي أن أكون واضح الصوت، كوضوح الفكرة.

وعندما سقطت على ذراعي الأيمن فانكسر، اضطررت إلى أن أكتب بيدي اليسرى لأول مرة ولفترة طويلة. وحاولت أن أملي على سكرتيري مقالاتي الطويلة والقصيرة كما يفعل أستاذنا طه حسين. فلم أفلح. فأنا أتكلم بسرعة وسكرتيري بطيء. وهو بطيء لأن خطه جميل فهو يحتاج إلى وقت أطول..

واندهشت كيف أن رحالة كبير مثل ابن بطوطة في القرن الرابع عشر قد أملى رحلته (تحفة النظار) على ابن جزي. وكيف أن الرحالة ماركو بولو قد أملى رحلاته في السجن.. وكيف أن أوسكار وايلد قد أبدع كتابه (من الأعماق) في السجن ـ وكان يملي أفكاره على أحد السجناء.

ولجأت إلى أسلوب آخر، وهو أن أملي مقالاتي على جهاز تسجيل وأبعث به إلى السكرتير.. ولم أفلح. لأنني عندما أكتب فلا بد أن أعرف عدد الكلمات المطلوبة. وأحذف وأضيف. أما بالنسبة للتسجيل فلا أعرف عدد الكلمات. ثم إنني لا أستطيع أن أكتب على الآلة لأن أصابعي بطيئة التنقل بين الحروف. ولذلك فليس أمامي إلا أن أكتب بيدي ومن حين إلى حين أحصي عدد الكلمات. وفي معظم الأحيان لا تكون المقالات لها نفس القدر من الكلمات.

وفي كثير من الأحيان تكون المقالات كلها في دماغي من أولها لآخرها.. وكل ما أحتاج إليه هو أن أجد قلما وورقا ـ فكأنني حفظتها ورحت أمليها على نفسي..

ولا يحدث إلا نادرا أن أمسك قلما وأفكر فيما سوف أكتب. وإنما أنا فكرت واستسلمت لما يتدفق من قلمي..