الطاهر من طهران؟

TT

لا أظن أن كلمة طاهر في المصطلح الشهير «المال الطاهر» لزعيم حزب الله في وصفه للأموال التي سيعيد بها حزبه إعمار الجنوب بعد حرب يوليو 2006، مشتقة من الطهارة أو الطهر، وإنما على الأرجح أن كلمة طاهر هنا كانت مشتقة من طهران. أي أن المال القادم لإعمار جنوب لبنان، أو لتخريب لبنان، أو للعبث بالوضع الداخلي في مصر، كل حسب رؤيته، هو «مال طاهر» قادم مباشرة من طهران. وصيغة (فَعْلان) في اللغة العربية، كما في قَحْطان وكَحْيان وزَهْقان وبَهْتان وزَعْلان وطَفْران، تُمنع في اللغة العربية من الصرف إذا كانت عَلَما كما يقول النحاة، في حين تمنع طهران من الصرف ليس لكونها عَلَما على وزن فَعْلان وإنما لكونها أعجمية. وربما كان من الأفضل لـ«حزب الله» لو أنه انساق مع اللغة في التعامل مع الأموال القادمة من طهران ومنعها من الصرف لأن مصدرها العجم لا العرب. وكي تُمنع من الصرف لا بد للعرب أيضا أن يسخوا بأموال لإعمار الجنوب اللبناني على غرار مؤتمر إعادة إعمار غزة الذي انعقد في مصر مؤخرا. وطهران صفة مشبهة بالفعل، والصفة المشبهة تدل على من قام بالفعل على وجه الثبوت في الحال ولا يعني الثبوتُ بالضرورة الاستمرارَ. أي أن المال الطاهر كان ثابتا في التدفق وإن كان ليس مضمونا استمراره، وسبحان الحنّان المنّان، وحنّان ومنّان هما صيغتا مبالغة تعنيان عظيم المنة وعظيم الحنان.

هذه مقدمة للنحاة وأهل اللغة يتجاذبون أطراف حديثها، ولكن الممنوع من الصرف وما يُصرف من أموال في بلداننا بهدف زعزعة الاستقرار والتخريب على المستويين الداخلي والإقليمي، لا بد من وقفة حقيقية حياله.

في عالمنا العربي لا يمكننا الحديث عن طهران لأن الرد الجاهز دائما هو «لماذا لا نتحدث عن إسرائيل؟». ظني أنه يمكن الحديث عن إسرائيل وعن إيران وعن أميركا وعن تركيا وعن كل الأخطار التي تهدد الأمن القومي العربي مجتمعة، ويجب ألا نغفل عن دور إسرائيل لأننا نتحدث عن إيران ولا أن ننسى الخطر الإيراني لأننا مهمومون بالخطر الإسرائيلي. يخيل إليّ أن العقل العربي قادر على استيعاب أكثر من موضوع في وقت واحد، وليس عقل الموضوع الواحد.

إيران اليوم بتدخلها في زعزعة أمن الخليج بما فيه ادعاؤها بأن مملكة البحرين هي المحافظة الإيرانية الرابعة عشرة واحتلالها للجزر الإماراتية الثلاث واستخدام بعض عناصر الشيعة من العرب والعجم للقيام بمظاهرات هنا وتفجيرات هناك، هو أمر جد خطير بالنسبة لاستقرار منطقة مهمة إقليميا ودوليا. إن اللعب الإيراني في الخليج لا يصب في مصلحة إيران فقط، وإنما يصب في مصلحة قوى عظمى قد تتدخل بشكل أوسع في الخليج بدعوى حمايته من التهديد الإيراني. الخليج اليوم مهدد بأن يكون في موقع المفعول به لا الفاعل، المفعول به من جار قريب بدعوى مقاومة الإمبريالية والاستعمار، ومفعول به من قبل قوى خارجية تسعى لبسط نفوذها بدعوى الحماية من نظام مارق لن يتردد في احتلال الأراضي كما فعل صدام بالكويت. الأمن القومي العربي في شقه الخليجي يحتاج اليوم من العرب أن يكونوا فاعلين بالمعنى الواقعي.

وليس الخليج وحده هو المهدد، فإيران تمثل قلقا أيضا بالنسبة لمصر في حالتين، الحالة الأولى هي دخول إيران عبر حلفائها في غزة، أي في العمق الاستراتيجي المصري من جهة الشرق، وهي فعلة لا يتردد المصريون عن الدخول في حرب من أجلها، فالقضية الفلسطينية بشقها الغزي بالنسبة للمصريين تمثل عمقا أمنيا لا يمكن لهم السماح لأي كائن من كان أن يلعب فيه، الشيء نفسه يقلق السوريين حول عمقهم الاستراتيجي في لبنان. دخول «المال الطاهر» من طهران إلى غزة، وكان آخره تلك الحقيبة التي ضُبطت مع أحد قيادات حركة «حماس» وكان بها أكثر من عشرين مليون دولار وُضعت في بنك العريش، كانت أموالا، حسب مسؤولين أمنيين، أكثرها قادم من طهران مباشرة والجزء الآخر جمعه رجال طهران من أفراد ورجال أعمال في مصر. والحالة الثانية التي تمثل فيها إيران قلقا بالنسبة لمصر هي العبث الإيراني في الداخل المصري. أي أن «المال الطاهر» اليوم لا يعبث في غزة فقط، فهناك تخوفات أمنية مصرية من تمويل إيراني لبعض الجماعات المتطرفة وتمويل الصحف التابعة لطهران في القاهرة، وكذلك ضخ الأموال بقصد تجنيد الشباب. وقد ذكر لي أحد المسؤولين بالملف الأمني في مصر، أن هناك أعدادا متزايدة من الشباب المصري يذهبون إلى إيران لا يعرف حتى الآن حقيقة توجههم، وأن الحادثة الإرهابية الأخيرة التي حدثت في حي الحسين منذ ثلاثة أسابيع كانت على الأغلب صناعة إيرانية مدعومة بـ«المال الطاهر».

إذن وجود حلفاء لإيران على حدود مصر عند غزة تدعمهم الأموال والحركات السياسية هو تهديد مباشر للعمق الاستراتيجي المصري، كما أن وجود بعض الخلايا النائمة التي تعمل لصالح طهران في مصر هو أمر أصبح مقلقا جدا بالنسبة للأمن القومي المصري. ويجب ألا نغفل عن أن وجود لوبي إعلامي طهراني في مصر يدافع عن التغلغل «الثقافي» الإيراني هو الذي يرشح الموقف بين مصر وإيران إلى مزيد من التصعيد.

في مواجهة الخطر الإيراني تتبع مصر استراتيجية ثلاثية الأبعاد، البعد الأول هو بذل أقصى الجهود في المصالحة بين «حماس» و«فتح» لإغلاق الباب في وجه طهران ومنعها من استغلال قضية العرب الأولى للترويج لمصالحها في المنطقة، وخصوصا منع إيران من أن يكون لها أي نفوذ في غزة. البعد الثاني هو الدخول في مصالحة عربية جمعت كلا من المملكة العربية السعودية وسورية من أجل ما يمكن تسميته بمحور التضامن العربي للحفاظ على القضايا العربية مجملا. أما البعد الثالث فهو التأكيد على أن مصر معنية بأمن الخليج واستقراره، فهي تحاول اليوم أن تبذل جهدا كبيرا لرمي ثقلها مع شقيقاتها في الخليج لخلق حالة من توازن القوى مع طهران. وفي الصراع الإيراني ـ الخليجي لن تحسم الأمر إلا دول إقليمية كبرى، فمن تَمِلْ معه تركيا ومصر سيكون هو الأقوى في الصراع الإيراني الخليجي المقبل. وبالتأكيد فإن مصر، بحكم عروبتها ومصلحتها، ستكون في صف الخليج العربي لا الإيراني في أي مواجهة من هذا النوع. أما تركيا فستظل علامة استفهام خصوصا في ظل قيادة يغريها وهج شاشات وشعارات الإسلام السياسي الذي تُعد طهران نجما أساسيا فيه. ورغم انشغال الكثيرين بقصة «حزب الله» وارتباطه بإيران وقصة المواجهة أو الحرب بالوكالة بين طهران وإسرائيل، فإن الموضوع برمته بالنسبة لطهران ليس لبنان أو إسرائيل، وإنما سعي إيران هو لمن ستكون له الكلمة العليا والنفوذ على الخليج، هل هو نفوذ عربي في المقام الأول يشمل مصر؟ أم عربي سني في المقام الثاني ويشمل تركيا؟ إيران معنية بالسيطرة على الخليج لا على لبنان الصغير، وليست معنية أبدا في دخول مواجهة حقيقية مع إسرائيل رغم كل الجعجعة العالية. كل ألاعيب إيران في لبنان أو في غزة ما هي إلا عملية إلهاء للدولتين العربيتين الكبيرتين مصر والسعودية، بهدف تركيز اهتمامهما في لبنان وغزة وترك الخليج بعيدا عن أهدافهما الاستراتيجية. وفي ذلك يُستخدم الكثير الكثير من «المال الطاهر»، والطاهر هنا بلا شك مشتقة من طهران لا من الطهارة.