أقوال وأفعال

TT

هناك قول يسارع المسؤولون الأميركيون من إدارات مختلفة إلى ترديده في مناسبات مختلفة، حتى أصبح جزءا من أدبيات تصريحات مسؤولي الحكومات الأميركية المتعاقبة، ألا وهو: «صوت الأفعال يعلو على صوت الأقوال» أو «الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الأقوال»، حتى إنه يمكن للمرء أن يغمض عينيه ويتذكر أي رئيس للولايات المتحدة، أو أي وزير خارجية أميركية، أو ناطقا باسمه، أو باسم البيت الأبيض قد نطق بهذا القول بمناسبة أو بدونها. هذا القول استخدم مع الدول التي تريد الإدارة الأميركية أن تعلن أنها لا تثق بأقوالها، بل تريدها أن تتحرك إلى الأفعال دون تقديم الإدارة نفسها أي مقابل لقاء ما هو مطلوب من تلك الدولة، أو أن الإدارة تريد من تلك الدولة أن تنصاع تماما للضغوط والعقوبات والحصار، وتلبي الشروط الأميركية، أو أن الإدارة تهدف إلى بناء الثقة عبر قيام تلك الدولة بالمبادرة للتحرك من الأقوال إلى الأفعال. واستخدام هذا القول الشهير، بحد ذاته، يعطي الانطباع بأن السياسة الأميركية قد وصلت مرحلة من النضج، والعقلانية، والتوازن، بحيث إنها تقيس الدول والحركات والأشخاص وفق أفعالهم وليس حسب أقوالهم، التي قد تكون مسهلة ومجانية حينا وغير كلفة في شيء في معظم الأحيان. وطبعا فحوى هذا القول ينسجم تماما مع بديهيات الأخلاق الإنسانية، وحتى مع الأسس الدينية في مختلف الديانات السماوية، التي تحاسب أتباعها على أعمالهم وليس فقط على أقوالهم، ولكنه في السياسة، وخاصة الممارسة الرسمية الأميركية للعلاقات الدولية، فإن هذا القول لطالما يرتد إلى ممثلي الإدارة، الذين غالبا ما يتحدثون عن السلام ويشنون الحروب، ويبررونها، وعن حقوق الإنسان وينتهكونها، وعن، وعن، وهناك الكثير من مؤشرات الازدواجية. فقد أكد الدين الحنيف على أهمية العمل، حيث قال عز وجل في محكم كتابه: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون». وهناك عشرات الآيات والأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد على مرجعية الأعمال في، تقييم المواقف، وضرورة انسجام القول مع الفعل، وانسجامهما مع النوايا الكامنة في الصدور، ولكن الغريب في الأمر هو أنه حيث يتعلق الأمر بمصير شعب محدد، ووطن هو فلسطين، وأمة عربية ومنطقة الشرق الأوسط بالذات، فإننا نشهد مسؤولين في الإدارة الأميركية يتناسون قولهم الشهير هذا، فيكتفون بالأقوال، ويتجاهلون عمدا وعن سابق إصرار الأفعال، التي لا يمكن، ولا يجوز، تجاهلها، مما يضعهم في تناقض فاضح حين يقولون هم ما لا يفعلون!

فأهم نقاش يدور اليوم في واشنطن، عن حزب الله وحماس، هو أنه عليهما «أن يعترفا بإسرائيل»، قبل أن «توافق الحكومة الأميركية على محاورتهما». والدعاية التي تروج لها إسرائيل منذ عقود في هذا الصدد هو أنها «محاطة بجيران معادين، وأن أمنها مهدد»، مع أنها المعتدية دوما، ومع أنها تحقق التفوق العسكري، بما في ذلك النووي، والهدف الإسرائيلي هو ابتزاز تعاطف العالم الغربي معها، خاصة وأن الضمير الغربي مكبل بذاكرة المحرقة النازية. ولكن الواقع الفعلي الذي يناقض علنا هذا القول هو أن إسرائيل هي التي تحتل فلسطين منذ ستين عاما، وهي التي تحرم الفلسطينيين من الحرية، وهي التي تحرم الفلسطينيين من الأمن، وهي تمارس العنف ضد ملايين الفلسطينيين، وتدمر المنازل التي يسكنونها، وتهجرهم منها، ملقية بهم في العراء، لتبني مكانها مستوطنات، وتستبدل السكان العرب الأصليين بالمستوطنين اليهود، التي تجلبهم من كل أصقاع الأرض، ومن ثم يطلب إلى هؤلاء الذين حرمتهم إسرائيل من الحرية، وشردتهم، ودمرت منازلهم، وخربت مزارعهم، وحاصرت مدنهم أن يعترفوا بـ«إسرائيل»، قبل أن تقبل الإدارة الأميركية وبلدان أخرى في العالم الغربي أن تحاورهم؟ أو ليس من الواضح أن هذا القول يقف على رأسه؟ أين الفعل الرسمي الأميركي الذي يبرر هذا القول؟ هل عملت الإدارة على إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، ومنح الفلسطينيين حقوقهم في الحياة والحرية والأمن والتنمية؟! هل وقفت ضد الإجراءات المنافية لكل مفاهيم حقوق الإنسان، والمتمثلة بهدم المنازل العربية في القدس؟ فهل فعلت شيئا لوقف الاستيطان اليهودي للأرض الفلسطينية في الضفة الغربية؟ هل الذي يحتل أراضي الغير، ويستعبدهم، ويضطهدهم بحاجة إلى الاعتراف به، أم أن ذاك الذي سلبت منه الأرض والوطن والحرية والمستقبل هو الذي بأمس الحاجة للاعتراف بحقوقه ولاتخاذ إجراءات حاسمة لمنع الاعتداء عليه في المستقبل؟

والسياق ذاته ينطبق على المحرقة الوحشية، التي تعرض لها أهل غزة وخاصة أطفال غزة، وهي المحرقة المستمرة منذ سنين وبشكل حصار، وليس فقط خلال الحرب الوحشية بداية عام 2009، فالبرغم من أن إسرائيل، استخدمت كل أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرمة دوليا والقنابل الفسفورية، التي زودتها بها الإدارات الأميركية، التي تصرح دوما بأنها تسعى للسلام، ولكن فعلها أدى إلى قتل وجرح آلاف الأطفال والأمهات والمدنيين، وأدى إلى تدمير المساجد والمنازل. وكذلك فإن مؤتمر المانحين رغم الأقوال الجميلة فإنه وضع شروطا منعت فعليا وصول المساعدات إلى ضحايا الوحشية العنصرية الإسرائيلية في غزة.

إنه لأمر مثير للدهشة بالفعل، أن تتبرع، بالقول فقط، دول بأموال تحت عنوان «غزة»، ومن ثم تشترط عدم وصول هذه الأموال إلى الغزاويين، الذين يموت جرحاهم لحد اليوم بسبب نقص الدواء والعلاج، والذين لا يزالون يتعرضون للصواريخ الإسرائيلية يوميا، والذين يسجنون جماعيا عبر إغلاق المعابر عليهم بموافقة دولية من قبل الذين «يريدون أفعالا وليس أقوالا»، ولكنهم تحدثوا عن إعمار غزة في تصريحاتهم الرنانة، التي هدفت إلى إظهار «إنسانيتهم»، التي لم تصل فعليا إلى الأطفال، الذين ما زالوا في العراء، والأمهات الثكلى اللواتي لم ينتشلن بعد جثث أطفالهن من تحت ركام بيوتهن، التي دمرت فوق رؤوسهن وهن نيام. ما الذي يعني الأم التي تستيقظ كل صباح باحثة عن مأوى وحمام ومياه ساخنة ووجبة لأطفالها، الذين لم يقتلوا بعد، ومدرسة آمنة ترسلهم إليها، ووجبة غذاء تعدها بكرامة وكبرياء، ما الذي يعني هؤلاء كل ذاك الحديث عن «خمس مليارات دولار» شاهدوها تذكر على الشاشات، ولكن قفص غزة ما زال محكما، وما زال السجان الإسرائيلي يطالب «باعتراف» الضحية به في محاولة لتضليل العالم وتعريف الضحية وكأنها المعتدي.

صحيح أن مؤتمر المانحين طالب «قولا» وليس «فعلا»، برفع الحصار فورا، وفتح المعابر، ولكن هل يرفع الحصار وتفتح المعابر بالقول أم بالعمل؟. الغارات الإسرائيلية لا تزال تقتل الفلسطينيين يوميا، منذ ما يسمى بوقف إطلاق النار، كما أن الجيش الإسرائيلي يدمر عشرات المنازل في القدس والضفة وغزة، وتحول عوائل بأكملها إلى لاجئين لينضموا إلى ملايين اللاجئين الفلسطينيين، الذين سلبت إسرائيل منذ ستين عاما أرضهم ومنازلهم وحريتهم ودمرت حياتهم، ومن ثم يطلب ممثلو الإدارة الأميركية الجديدة، التي رفعت شعار «التغيير»، من ضحايا القمع والاحتلال الإسرائيلي الاعتراف بدولة ما تزال تقتلهم يوميا وتفرض عليهم الحصار وتحرمهم من الحرية والاستقلال.

ضحايا القمع الإسرائيلي هؤلاء يطالبون أيضا إدارة أوباما بأن تمارس «التغيير» فعلا وبالأعمال وليس بالأقوال، فأين هو «التغيير» عن سياسات بوش فيما يخص الفلسطينيين، وهي سياسات نشرت الحروب والكراهية والقتل في الشرق الأوسط؟. إن معزوفة شرط اعتراف حماس والفصائل «بإسرائيل» قبل أن توافق الولايات المتحدة على الاعتراف بها كجزء من الحياة السياسية الفلسطينية، هو ذريعة لاستمرار السياسة الأميركية على ما كانت عليه دون «تغيير»، وتبرر لقيام إسرائيل المضي قدما في الاستيطان، وهدم المنازل وتدمير أي فرصة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط.

إذا كان المعيار الأميركي، كما يقول ويكرر دائما المسؤولون في الإدارات المتعاقبة، هو أن «لغة الأفعال تعلو على لغة الأقوال» فلنضع على المحك أقوالهم عن «السلام» و «الحرية» و «حقوق الإنسان» و« الديمقراطية»، والمحك هو أعمالهم تجاه الفلسطينيين! فمتى سنرى أعمالا أميركية تعترف بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والحياة والوجود؟.

سواء حاورت الولايات المتحدة هؤلاء على الأرض، أم لم تحاورهم، فهذا لن يلغي وجودهم كجزء هام من النسيج الوطني الفلسطيني، الذي لن يختفي، الذي سيظل يقاوم رغم حروب الإبادة الإسرائيلية، التي تشن عليه، إلى أن يستعيد حريته وحقه المشروع في أرضه ودولته المستقلة.

www.bouthainashaaban.com