المصير العربي.. بين الأقوال والأفعال والمصالح

TT

«ثلاثة أشياء لا تستحق أي رحمة: النفاق والغش والطغيان»

(فريدريك و. روبرتسون)

لملمة الشتات العربي، وتحصين البيت العربي طالما هو قائم ولو على أعمدة شبه متداعية، غايتان كانتا حتما وراء الدعوة إلى عقد «قمة الرياض الرباعية». وعليه، إذا ما تحققتا تكون المنطقة قد تجاوزت مؤقتا مرحلة انتقالية خطيرة.

ففي خضم الانهيار الاقتصادي العالمي، وما قد تفرزه المعاناة المعيشية من أزمات على امتداد المعمور، ثمة تغيرات حقيقية ساهمت الأزمة فعلا في إفرازها، على رأسها التغيير الحاسم على قمة هرم السلطة في الولايات المتحدة. إذ مما لا شك فيه، أن العامل الاقتصادي لعب دورا أساسيا في توق الأميركيين إلى التغيير الجذري، الذي حمل باراك أوباما إلى البيت الأبيض، بجانب الأخطاء العديدة المتراكمة لحكم جورج بوش الابن و«محافظيه الجدد» والقدامى.

وأغلب الظن أن المعطيات الاقتصادية والمعيشية خلال الأشهر المقبلة ستفعل فعلها، أيضا، على المستوى الإقليمي، رغم الأرجحية التاريخية للعوامل الدينية والمذهبية والعشائرية والعرقية على المسائل المطلبية البحتة في مجال التأثير على الأوضاع السياسية.

في هذه الأثناء، يكتسب الكلام عن اختلال التوازن الإقليمي، على حساب العرب وهويتهم الثقافية واستقلالهم السياسي في المشرق العربي، جدية وأبعادا أكبر يوما بعد يوم.

إن «العروبة» كفكرة كانت سلعة استهلاكية تاريخية نجحت بريطانيا ـ غير المؤمنة بها أصلا ـ في «تزيينها» للعرب و«توضيبها» لتسويغ انتفاضتهم على الدولة العثمانية، عندما أخذت الأخيرة تهتز بظاهرة «التتريك» القومية في أواخر القرن التاسع عشر. وهي لأسباب قومية مفهومة كانت وما زالت مرفوضة عند «جاري» العرب الكبيرين تركيا وإيران. لكن المفارقة أنها «مرحب بها بشروط» عند الضلع الإقليمي الثالث لـ«المثلث غير العربي» في المنطقة، أي إسرائيل، لأنها قد تبرر تهجير الفلسطينيين من فلسطين وزرعهم في أي مكان بديل من «العالم العربي الواحد». فتبعا للمنطق الإسرائيلي «الترانسفيري» أين المشكلة في استيعاب العالم العربي بضعة ملايين من الفلسطينيين، إذا كان العرب يرفضون ما يعتبرونه «حدودا مصطنعة» فرضها الاستعمار الأجنبي لتفريقهم؟

هنا نحن إذا أمام «عروبة» هي أشبه بسيف ذي حدين.

فمن ناحية، هي ضرورة «تضامنية» وتحصينية لمواجهة طموحات قوتين إقليميتين، سبق لكل منهما أن سيطرت على المشرق العربي لعهود طويلة بدأت حتى قبل الإسلام. ومن ناحية ثانية ما لم يكن زمام المبادرة الإقليمية بأيدي العرب، وما لم يكن تعريف قادة العرب للمصلحة العربية صادقا لا لبس فيه، قد تضيع منهم ليس قضية فلسطين فحسب، بل يقضى أيضا على كل جذوات التحرر والتقدم واحترام التعددية وحقوق الإنسان في دولهم. وإذا ما شئنا إيضاح هذه النقطة أكثر، يجوز القول إن «واقع التجزئة» ـ ولو مرحليا ـ ساعد ويساعد على نمو نبتة الحرية والديمقراطية في الكيانات، التي دأب «إخوتها» الكبار الرازحون تحت أنظمة أحادية على رفض الاعتراف بشرعية وجودها. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى تجربة الديمقراطية في السودان قبل حكم إبراهيم عبود (1958-1964) وبعده، عندما كانت مصر تعيش في ظل حكم الحزب الواحد، ووقوف القوى «العروبية» التقدمية في لبنان ضد دخول سورية العسكري إلى لبنان عام 1976، ورفض حتى غلاة المعارضة الكويتية أي تعاون مع الغزو العراقي للكويت عام 1990.

فـ«الأخوة» الوحدوية لا تفرض فرضا، ونعمة «التقدمية» لا تدفع دفعا في بلاعيم الآخرين، و«المقاومة» تنبت في البيئة الملائمة لها، حيث يعاني المواطن من ظلم احتلال جاثم، فلا تعار ولا تؤجر ولا تعطى كـ«مقاولة من الباطن»، ولا يديرها البعض بـ«الريموت كونترول»، من دون إجماع حقيقي عند أصحاب العلاقة المباشرين.

إن رفض «واقع التجزئة» كذريعة لتوسيع دائرة التحكم عن بعد بالقرار المحلي في عدد من كيانات المشرق العربي قد يبدو مفيدا للبعض، لأنه يزيد في عدد أوراق التفاوض. بل يبدو مفيدا ومناسبا الآن حتى لعدد من العواصم الغربية، التي طالما كرهت «العروبة» وحاربت مرارا كل من رفع لواءها، بدليل ما نلحظه الآن من مراجعة واشنطن وباريس ولندن «أسلوب» تعاملها مع قضايا المنطقة وقواها المحلية.

بالنسبة للعواصم الغربية المعنية، أشك كثيرا في أن على رأس أولوياتها مصير الشعب الفلسطيني وحقه في دولة قابلة للحياة في أراضي الضفة الغربية وغزة تكون عاصمتها القدس الشرقية. ومصدر الشك يتجاوز السوابق التاريخية العديدة، والموقف الشعبي الإسرائيلي المعبر عنه انتخابيا بانتصار تلو الآخر لليمين المتطرف، إلى «البراغماتية» المصلحية، التي تحكم مقاربات قوى تريد «طلاقا بائنا» مع المقاربات السابقة، التي فشلت فشلا ذريعا في العراق، بعدما أتيح لـ«اللوبي الليكودي» في واشنطن الترويج لحرب اقتلاع واحتلال راديكالية، كان هو أول من انقلب عليها وأخذ ينتقد «إدارتها» بمجرد تحقيق غايته المباشرة.

لقد كان في صميم أهداف هذا «اللوبي» خلق واقع مصلحي ـ عرقي ـ مذهبي بديل في الشرق الأدنى، القرار الفصل فيه يتجاوز العرب. ومن ثم، بعد «تغييب» المصلحة العربية ودفنها بجوار «القضية الفلسطينية» المرفوض بحثها أصلا، يصار إلى اعتماد «سايكس ـ بيكو» جديد بمعطيات مختلفة وخرائط مختلفة.

بعض العرب تنبهوا لهذه المؤامرة، متأخرين بعض الشيء مع أن نذرها بدأت تظهر عام 2002، مع أفكار سيء الذكر لوران موارويك، وهم اليوم إنما يسعون لاحتواء ما يمكن احتواءه من أضرارها ليس إلا.

وفي المقابل، قد يستغرب نفر منا، أن تتزامن «العنتريات» الخطابية المفرطة في الاستخفاف بقوة الغرب وقوة إسرائيل، والمغالية في «العداء» لهما، معطوفة على سيل «الانتصارات»، التي تتحقق تباعا عليهما، مع مد القوى الغربية «المهزومة» جسور التحاور والتفاوض المنظورة وغير المنظورة إلى عدد من رموز الرفض والعداء الشرس(!)

غير أن الذكاء السياسي غير المنكر عند عدد من مخططي السياسة الإيرانية، ينم عن أن هذا من «عدة الشغل». فاحتكار حلبة الكفاح ضد «الأعداء» يساعد على إحراج الآخرين، تمهيدا لإخراجهم من الحلبة. وبالنتيجة ترك كل الأوراق التفاوضية بيد واحدة، وتموضع كل الفصائل الراديكالية تحت مظلة واحدة. وهكذا ترتاح القوى الغربية في عقدها الصفقات مع مرجعية واحدة بدلا من أن تضيع بين الشراذم المتنافرة، التي يزايد «قيسها» على «يمنها»، و«زيدها» على «عمرها».