يا دار عبلة

TT

ترك الطيب صالح زوجة بريطانية الأصل، كانت جزءاً من شخصه ومن عطائه ومن طباعه، وليس فقط من حياته. وقد عاش حياته كلها ما بين أمواج الشرق وأمواج الغرب. العقل في الحاضر والقلب في الحنين. الإقامة في أضواء لندن والمقام الدائم تحت البلح على ضفاف النيل. يحلم بالعربية في الليل ويأمل بالإنكليزية في النهار. لا هجرة دائمة ولا عودة دائمة. يجلس على شاطئ المتنبي وفي ظلاله، ثم يكتب عن شيللي وطاغور. لكن الذي أعطاه مكانته في آداب العالم، ليس أنه أفاد من ثقافة الغرب بل إنه حافظ على روح الشرقي ولغته وتعابيره. وقد قلده عرب كثيرون في استخدام الألفاظ الشعبية حتى نسينا أنه الرائد في ذلك. ونجح كثيرون في هذا التنويع وفي عرض جمالات التراث الشعبي ولطائفه، في حين تناول البعض الآخر تعابير ضحلة ومبالغاً فيها على نحو ثقيل أو مضحك.

ولم يشرح أحد ذلك الشعور بالتناقض، أو بالازدواجية، كما شرحه الطيب صالح نفسه في رسائله إلى زوجته، إيلين، في كتابه «دومه ود حامد»، مفسراً لها الفارق بين العقليتين: «أنا لا أحفل بأمسي ولا بيومي، وأنت تحفلين بكل شيء» ثم «تقرئين الكتاب وتخبرينني بمحتواه، فأكتفي بك فلا أقرأ. تزوجتني، تزوجت شرقاً مضطرباً على مفترق الطرق، تزوجتِ شمساً قاسية الشعاع، تزوجتِ فكراً فوضوياً وآمالا ظمأى كصحارى قومي».

ثم يطمئن إيلين إلى أنه لا مبرر بعد اليوم لأن تغار عليه من الفتيات السودانيات لأن الانتقال نهائي: «اطمئني فلن تضحك لي فتاة في بلادي، فأنا في حسابهن كنخلة اقتلعها التيار وجرفها بعيداً عن منبتها. أنا في حسابهن تجارة قبيلة كسدت. ولكن ما أحلى الكساد معك». كاد يقول لها إنه بسبب الزواج منها، أصدرت عليه قبيلته حكماً بالنفي أو بالعزل. لقد أصبح غريباً وليس مجرد مهاجر فقط. ويصارحها بما لا تطيق سماعه، وهو أن سلوك أهله حياله قد تغير هو أيضاً: «قبل أعوام كان خلية حية في جسم القبيلة المترابط. كان يغيب فيخلق فراغاً لا يمتلئ حتى يعود، وحين يعود يصافحه أبوه ببساطة وتضحك أمه كعادتها ويعامله بقية أهله بلا كلفة طوال الأيام التي غابها.. أما الآن فأبوه قد احتضنه بقوة وأمه ذرفت الدموع وبقية أهله بالغوا في الترحيب به. هذه المبالغة أزعجته. كان إحساسهم الطبيعي قد فتر فدعموه بالمبالغة».