المسيحية السياسية: طارق عزيز.. قديس أم سياسي؟

TT

الدولة العربية الراهنة دولة معاصرة، لكنها ليست بعصرية، ولا حتى حداثية. هي شبيهة بدولة أميركا اللاتينية الخارجة في نهاية القرن الثامن عشر من إهاب الاستعمار الإسباني والبرتغالي. دولة وطنية مستقلة، لكنها محكومة بطبقة عسكرية أو مدنية أوتوقراطية.

هل يتعين على الدولة العربية الراهنة أن تعيش قرنين آخرين لكي تلامس الحداثة السياسية، التي لامستها أخيرا دولة أميركا اللاتينية؟ كانت المسيحية العربية متفائلة. كانت تظن منذ نهايات القرن التاسع عشر أنها قادرة على إلحاق العرب بالعصر السياسي الحديث، من خلال تجديد وإحياء التراث الثقافي العربي، انطلاقا من لبنان المسيحي، وبعض مثقفيه وأدبائه المهاجرين إلى مصر. تركت المسيحية الثقافية للعرب مهمة تحرير أنفسهم من نير الإمبراطورية العثمانية. تجاوب العرب. قاموا بالمهمة النضالية بسرعة مذهلة. لكن ما لبثوا أن سقطوا ضحية استعمار أوروبي أكثر ذكاء ودهاء في تفتيت الانتماء القومي الواحد.

تكيفت المسيحية اللبنانية مع ظروف الاستعمار الجديد، منقلبة على رأسها كما في رياضة اليوغا، متخلية عن دورها العروبي. بل ما لبث أن ارتكبت خطأ تاريخيا مروعا، في رهانها على القوة المتفوقة للصهيونية لحماية «دولة لبنان المسيحي» من الذوبان في بحر العروبة (الصحراوية).

في هذه الأثناء، اتخذت المسيحية السياسية والثقافية في مصر موقفين متناقضين تماما. نهجت المسيحية الثقافية المهاجرة (الشوام) موقفا محايدا في الصراع بين الاستعمار والملكية والحركة الوطنية. بدا ذلك واضحا في «أهرام» آل تقلا، ورئيس التحرير أنطوان الجميل، فيما استغني آل زيدان «آسفين» عن الصحافي الكبير مصطفي أمين، عندما حاول زج مجلتهم الأسبوعية (الاثنين) في حملة القصر على الحركة الوطنية المصرية، ممثلة بحزب الوفد.

أما المسيحية المصرية (الأقباط)، فقد اندمجت في صميم الحياة السياسية والاجتماعية. وظفت النخبة القبطية خبراتها ومواهبها في خدمة الإدارة البريطانية.

البابوية القبطية حالفت النظام السياسي، تماما كما تفعل المشيخة الأزهرية. وهي تقف اليوم موقفا وطنيا معارضا للنزعات الانفصالية لدى بعض المسيحية القبطية المهاجرة. غير أن الدور السياسي الباهر كان للزعماء الأقباط المدنيين. شارك يسارهم في تشكيل الحزب الشيوعي المصري. توزع الليبراليون منهم على الحزب الوطني (الوسط)، فيما أصبح مكرم عبيد (باشا) المحرك السياسي والحزبي للحركة الوطنية المصرية، على مدي خمسة عشر عاما، من خلال منصبه كسكرتير عام لحزب الوفد (1927-1942). لكن التاريخ ظلم مكرم عبيد. لم يصدر إلى الآن كتاب جامع عن السياسي الفذ، الذي أصر على عروبة مصر والأقباط، قبل أن يكتشف ناصر ذلك بسنين عديدة.

أعود إلى المسيحية اللبنانية، لأضيف أن اتفاق الطائف كان أحد الإنجازات الباهرة للدبلوماسية السعودية. أعاد الاتفاق التوازن الطائفي المفقود، وجدد ثقة المسيحية اللبنانية بالمصير المشترك مع العرب.

لعل حل عقدة الاستقطاب السعودية ـ السورية، يعيد الطمأنينة إلى المسيحية اللبنانية. نعم، وضعت الذراع السورية الطويلة نهاية للحرب الأهلية. لكن السعودية، بعد الانسحاب العسكري السوري إثر اغتيال الحريري، حلت محل سورية كضامن لاستقلالية المسيحية اللبنانية، وراعية لحرياتها الدينية والسياسية، ومبددة لخوفها على لبنان من الذوبان في الكيان السوري.

نجح نظام الأسد في استقطاب المرجعيتين الكاثوليكية والأرثوذكسية، مستثمرا الانتقال التاريخي للمرجعيات المسيحية العربية إلى دمشق من أنطاكية، هربا من التتريك. بات حلف الأسد مع المسيحية السورية أحد أهم سمات حلف النظام مع الأقليات الدينية. الغريب أن هذا الحلف غير المكتوب كان بإمكانه أن يستعيد ثقة المسيحية اللبنانية به لو استغله النظام السوري استغلالا أمثل.

المسيحية الكلدانية والآشورية في العراق، لم تحصل على المكاسب التي حققتها المسيحية السورية واللبنانية. عجزت أميركا والنظام الشيعي الذي أقامته، عن حماية هذه المزهريات الأثرية التاريخية من الهجمات الاستئصالية، التي شنتها «القاعدة» عليها. بن لادن، ساكن الخرائب، لا يعرف أن كنائس وأديرة المسيحية العراقية هي التي تولت تعريف العرب المسلمين بالفلسفة الإغريقية.

عموما، عاشت المسيحية العربية في مصر والمشرق بعيدا عن السياسة، احتجاجا على ما تسميه التعامل مع المسيحيين كرعايا لا كمواطنين.غير أن هذا القول مردود ومبالغ فيه. السبب واضح وهو أن الدولة الأوتوقراطية ألغت السياسة، أو كانت السياسة فيها مجرد علاقة عنف وقوة، بحيث يتساوى في ذلك الحرمان، المسيحيون والمسلمون.

مع ذلك، كان هناك تيار سياسي مسيحي خاض غمار السياسة. ذاق حلاوتها ومراراتها. ترك ميشيل عفلق، وجورج حبش، وانطوان سعادة، بصماتهم واضحة على التاريخ السياسي العربي المعاصر، كل من زاويته الأيديولوجية. لكن هدفهم كان واحدا: فصل الدين عن السياسة والدولة.

هل كان طارق عزيز في مستوي هذه النخبة السياسية المسيحية؟ هل ترك بصماته على تاريخ العراق الحديث؟ طارق عزيز لم يكن قديسا. كان بصراحة سياسيا ومسئولا يعيش في كنف صدام، في رفاهية دبلوماسية باذخة. إذا كان هناك ما يشرف طارق فهو التحاقه بحزب القومية العربية، وكأنه يريد أن يثبت أن الكلدانيين والآشوريين هم أبناء عمومة للعرب، بحكم كونهم مثلهم ساميين مهاجرين من شبه الجزيرة العربية.

لكن انتهازية طارق لا تقل عن انتهازية سائر مثقفي البعث العراقي، الذين سلموا الحزب، منذ الستينات، إلى «زعران» الشارع البعثي، بزعامة صدام «الغانغستر» السادي شبه الأمي. دفع هؤلاء المثقفون الثمن من حياتهم (عبد الخالق السامرائي). بعضهم كعفلق وسعدون حمادي وطارق عزيز، عاشوا في ذل الاستسلام والرعب.

لم يبق من هؤلاء حيا سوي طارق عزيز. كان عليه أن يواجه القضاء، لا كمسئول لم يكن يسأل، ولا كمستشار لم يكن يستشار أو يشير، وإنما ليكون عبرة للطبقة الانتهازية العريضة المحيطة بدائرة القرار العربي.

غير أن حكومة المالكي، في إلحاحها العلني على محاكمة وإعدام طارق عزيز، خالفت مبدأ فصل السلطات واحترام استقلالية القضاء، في الديمقراطية التي تبشر بها العراقيين. نعم، لم يكن طارق عزيز قديسا. كان بريئا حقا، لأنه لم يشارك في صنع القرار. ذنبه هو انتهازيته اللاهية عن مأساة شعبه.

لو كان هناك قضاء مستقل في العراق، لحاكم القاضي رؤوف رشيد عبد الرحمن، (الذي حاكم طارق وصدام) حزب المالكي، حزب الدعوة بالذات. فقد مارس الحزب عنف الإرهاب في معارضته لصدام. كادت قنابل الحزب اليدوية أن تفتك يوما بطارق عزيز، في حرم جامعة عراقية، لا لشيء إلا لكونه مسيحيا «كافرا» يرضى القتيل، وليس يرضى القاتل.